أمام الأزمة الهيكلية التي تعيشها اليوم الصحافة التونسية وما تمثله الوسائط الالكترونية من تهديد لها، ينضاف إليها انسحاب الدولة من المشهد الإعلامي خلال العشرية المنقضية بدعوى حرية الإعلام واحترام مسار الانتقال الديمقراطي ، فإن مطالب المهنيين والخبراء ما انفكت تدعو الدولة الى استئناف دعمها للصحافة، كما في البلدان الديمقراطية حولنا، ضمانا لحق المواطن في إعلام حر وتعددي، ومنعا لوقوع الصحافة فريسة لقوى المال والتجاذبات السياسية، مما يؤدي إلى توجيه الرأي العام وإفساد الحياة السياسية، ووأد الانتقال الديمقراطي نفسه في النهاية.
وفي المقابل، فإن واقع الإعلام والصحافة التونسية بالخصوص يتطلب اليوم قيامها من جهتها بإصلاح أوضاعها الداخلية في سبيل إنجاح وتحقيق انتقالها الرقمي السلس نحو صحافة الغد الرقمي. ويتطلب ذلك إعادة هيكلة أساليب العمل والتصرف الرشيد في المؤسسة الصحفية والإعلامية عبر برامج جديدة للإصلاح الهيكلي كتلك التي تشهدها المؤسسات الاقتصادية الناجحة ، وذلك من أجل كسب رهان التنافسية في فضاء إعلامي أضحى مفتوحا على الصعيد الوطني والعالمي.
ويمكن الاستئناس بالتجارب الرائدة حولنا في الانتقال الرقمي والتكنولوجي في فرنسا مثلا لمعرفة حجم الجهود المبذولة في هذا البلد وغيره من البلدان الأوروبية للاندراج في ديناميكية المستقبل الرقمي والذكاء الاصطناعي.
تحديات العصر الإلكتروني
ويجدر التذكير في هذا الباب أنه في تونس كما في سائر بلدان العالم ، لازالت اليوم وغدا، تطرح تساؤلات مصيرية حول مستقبل الصحافة الورقية أمام الصحافة الالكترونية الزاحفة، وهل هي نهاية الصحافة المكتوبة بعد أربعة قرون من الوجود .
فمنذ ظهور الانترنات ومحامل الميديا الجديدة مع شبكات التواصل الاجتماعي والانتقال إلى عصر ما بعد الميديا (بُوسْتْ مِيدِيَا)، أصبحت الصحافة الورقية في تونس وفي أرجاء العالم تعاني الكساد والتراجع في المبيعات والمداخيل وفي مجال التأثير على الرأي العالم، بسبب التغير الكبير في عادات القراءة، بعد أن أصبح المتلقي هو نفسه باثًّا للمادة الإعلامية والإخبارية عبر جهازه المعلوماتي لهاتفه النقال المزود بكاميرا وميكروفون ولوحة مفاتيح كتابة وزر بث آني للجميع بسرعة البرق، بقطع النظر عن كل الإشكاليات المطروحة على الميديا الجديدة على مستوى جودة الأخبار وصدقيتها وإمكانيات التلاعب بها وبالتالي بالرأي العام .
هكذا مثلما أحالت أمس المطبعة ومخترعها غوتنبارغ عام 1550 النساخين والوراقين اليدويين على المعاش ، ها هي الميديا الجديدة تكاد تحيل اليوم على المعاش الصحف الورقية المطبعية، بعد أن أصبحت النسخة الالكترونية للصحف السيارة متوفرة دون ورق على الشبكة العنكبوتية .
حتمية الانتقال الرقمي الصحفي
وأمام هذا الخطر الداهم تحركت العديد من الصحف الغربية خلال العشرية الأخيرة لتحقيق ما أطلق عليه "الانتقال الرقمي" للصحافة من الورقي الكامل إلى الإلكتروني الورقي المزدوج . وقد جددت تلك الصحف أساليب انتشارها بتطوير نسخها الإلكترونية بتطبيقات ملائمة للصيغة الإلكترونية على جهار الكمبيوتر أو الهاتف النقال .
وبالتوازي مع النسخة الورقية، بعثت تلك الصحف نسخا الكترونية أصلية أو معدلة مع المحتوى الورقي، وبعض مقالاتها كتب خصيصا للنسخة الكترونية مدفوعة القراءة الإلكترونية، حسب طلب القارئ وإمكانياته المالية بصيغ ترويجية مبسطة ومغرية للجميع، استخدمت فيها التقنيات الاتصالية الترويجية الإشهارية لمواد المجتمع الاستهلاكي وبيع المقالات للمتصفح بالتقسيط أو بالقطعة وحسب الطلب كما تبيع خدماتها شركات الخدمات الهاتفية وغيرها. وأدى ذلك إلى زيادة المداخيل والإشهار للصحيفة الذي أصبح بمدخولين: ورقي وإلكتروني، بعد أن كان بمدخول واحد (ورقي).
ازدهار بعد إفلاس في الصحافة الفرنسية
وتفيد مختلف تجارب الانتقال الرقمي للصحافة في بلدان الغرب الأمريكي والأوروبي، توصل الصحف فيها إلى إنجاح هذا التوجه الجديد الضامن لمستقبل الصحافة التقليدية في المستقبل الالكتروني . والأمثلة عديدة مدعومة بالأرقام الصادرة عن هذه المؤسسات المزدهرة بعد أن كانت مهددة بالغلق .
ففي فرنسا مثلا القريبة منا لغويا، باعتبارنا نطالع صحفها ونعرف خلفياتها وأوضاعها ويسهل استنساخ تجاربها في محيطنا الخاص ، أظهرت بيانات الحصيلة التي نشرتها صحيفة "لوموند" في عددها ليوم 7 جويلية 2020 أن سنة 2019 كانت إيجابية من ناحية التوازنات المالية للمؤسسة الصحفية، بعد أن ضاعفت الصحيفة ومجموعة النشريات الصادرة عنها، رقم معاملاتها وعدد المشتركين في النشرات الإلكترونية لها . وللسنة الثالثة على التوالي، حققت الصحيفة مرابيح بقيمة 2 فاصل ستة مليون يورو . وبلغ رقم معاملاتها 302 مليون يورو، حسب نفس المصدر. كما ارتفعت نسبة الاشتراكات الرقمية بنسبة 29 بالمائة، وبلغت نهاية عام 2019 أكثر من 220 ألف مشترك رقمي .
أما المجلات التابعة لصحيفة "لوموند" فقد شهدت نفس الارتفاع الرقمي في الاشتراكات، ووصلت مجلة " كُورِييه أنترناسيونال" إلى 55 ألف مشترك في جوان 2020 . أما الصحيفة الشهرية المعروفة بتحاليلها السياسية المعمقة "لوموند ديبلوماتيك" فسجلت 21 ألف مشترك رقمي. وبلغت في نفس عام 2019 نسبة الرقمي في مداخيل الصحف 27 في المائة بالنسبة ليومية " لوموند" مقابل 15 بالمائة عام 2014.
وبينت الصحيفة الفرنسية أنها حققت ذلك بفضل تطوير المنتوج الصحفي الرقمي ضمن استراتيجية طموحة في معالجة محتوى التحرير وتحيينه وتكييفه حسب طلب القراء الجدد من الجيل الجديد واعتماد التطبيقة الخوارزمية الملائمة لذلك الجيل على مستوى الإخراج والعنونة الملائمة مع المحافظة على المحتوى الجيد للصحافة .
ونفس النتيجة حققتها الصحيفة الإلكترونية الفرنسية المختصة في الصحافة الاستقصائية " مِيدِيَا بَارْتْ" خلال عام 2020 ، حيث سجلت مرابيح بأربعة ملايين يورو، بزيادة بنسبة سبعين بالمائة عن السنة التي سبقتها، مما أدى إلى ارتفاع رقم معاملاتها بـ 22 بالمائة ليصل إلى 20 مليون يورو، وذلك رغم جائحة كورونا في تلك السنة، التي تسببت في توقف عملية توزيع الصحافة التقليدية واختناقها واندثار الكثير من عناوينها وتراجع مجمل الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية بسبب الإقفال عبر العالم . وقد سجلت "ميديا بارت" في تلك السنة قرابة ربع مليون مشترك رقمي (218 ألف مشترك). كما انتدبت في تلك السنة بفضل هذا الازدهار، ثلاثين صحافيا وصحافية من الشباب معتمدة على مبدا التناصف بين الرجال والنساء في هيئة تحريرها، ليرتفع بذلك عدد صحافييها وصحافياتها إلى 118.
علما بأن هذه الصحيفة الرقمية التي تأسست عام 2008 ، لا تعول في توازنها المالي على مداخيل الإشهار، بل فقط على مداخيل المشتركين، وهي في ذلك مثل صحيفة " لُوكَانَارْ أُونْشِيني" الورقية والإكترونية التي تعول على مشتركيها منذ إنشائها عام 1915 ضمَانا لاستقلالها . وقد حققت أيضا في تلك السنة فوائض عبر الاشتراكات الرقمية، وهو ما حدا بمجلة " لُوبْوَانْ " الأسبوعية أن تعنون في مقال تحليلي حول هذه الظاهرة الجديدة في الانتقال الصحفي " إنه الجري وراء ذهب الاشتراكات الرقمية".(انظر النسخة الالكترونية للمجلة بتاريخ 18 مارس 2021).
وقد تحقق ذلك أيضا على الصعيد الخارجي للصحف، بفضل عملية إعادة هيكلة مستمرة وعميقة للمؤسسات الإعلامية المكتوبة ودخولها في شراكات مالية ومساهمات في الأسهم ورأس المال دون حدود إيديولوجية للتوجهات التحريرية ، عبر شراء بعض العناوين وإدماج أخرى مع مؤسسات إعلامية اتصالية تنافسية على الساحة، أخرجت الصحافة المكتوبة الورقية المحتضرة، من إطارها الهيكلي والقانوني التقليدي الذي يعود لعشريات من الزمن دون تغيير أو تطوير ذاتي جوهري، أملته اليوم تحولات العصر الرقمي المفروض.
ديمومة الصحافة النبيلة
ويعكس هذا المسار الإيجابي في أمثلة الانتقال والتكيف، خلود الصحافة وتجاوزها كل الصعاب والتحديات التي هددت وجودها منذ ظهور أول صحيفة في العالم عام 1635 وهي " لاغازيت" الفرنسية. واستطاعت الصحافة، منذ ذلك الوقت أن تواجه أول مزاحم لها وهي وكالات الأنباء الناشئة عام 1835 . ثم استطاعات أن تواجه ظهور الراديو وتأثيره السحري بداية القرن العشرين (1900) ثم ظهور التلفزيون بأضوائه المبهرة في منتصف القرن العشرين (1950)، ثم ظهور الانترنات نهاية القرن العشرين (1990)، ثم ظهور شبكات التواصل الإجتماعي التفاعلية "فيس بوك" بداية القرن الحادي والعشرين (2002) .
وكانت الصحافة في كل تلك التحولات مثل طائر العنقاء الأسطوري الذي يعاود الخروج حيا من تحت الرماد. ولعل كل ذلك يترك باب الأمل مفتوحا أمام الصحافة النبيلة للتسلح بالقدرة على التأقلم مع المستجدات ومع ثورة تكنولوجيا المعلومات والذكاء الصناعي في المستقبل، الذي لا يعرف حدودا للتطور الإنساني ويبقى مفتوحا على كل "الحتميات التكنولوجية"، كما تنبأ بذلك عالم الاتصال الكندي مارشال ماكلوهان منذ عام 1960 في كتابه عن "القرية الكونية".
وتطرح في هذا السياق المستقبلي تحديات جديدة على الصحافة، خاصة وأن الزمن الإعلامي أو الميدياتيكي قد تغير بصفة صاروخية خلال العشريتين الأخيرتين من بداية هذا القرن بالانتقال الفجئي من حقبة الميديا التقليدية الجماهيرية (مَاسْ مِيديا)، إلى حقبة ما بعد الميديا (بُوسْطْ مِيديَا) القائمة على شبكات التواصل الاجتماعي التفاعلية، باعتبارها ميديا فردية وذاتية (سَالْفْ مِيدِيَا) تجعل من الممكن، لكل فرد باث/متلقي/باث، أن يعيش في كوكب خاص وعالم خاص به، وبمريديه أو أستاذه الروحي الافتراضي.
وهذا الأمر أكده العديد من منظري الإعلام والسياسة في الغرب المتطور في دراسات وكتب كثيرة صدرت خلال السنوات القليلة الماضين من ضمنهم عالم الاقتصاد والإعلام والاستشراف جاك أتالي المستشار السياسي للرئيس الفرنسي الاسبق فرانسوا ميتيران في كتابه الأخير الصادر عام 2021 بعنوان" تاريخ الميديا: من إشارات الدخان إلى الشبكات الاجتماعية وما بعدها"، بالقول إن الصحافة منذ القرن السادس عشر قد عرفت كيف تتأقلم مع التحولات التكنولوجية، وصولا إلى شبكات التواصل الاجتماعي الحالية وما بعدها التي أصبح من خلالها مالكو هذه الشبكات يملكون المعلومات عن الأفراد أكثر من السلطات، وهو ما يدعو إلى ترويض هذه الشبكات والشركات التي تقف وراءها والتي تتحكم في مسارات الحياة السياسية والإعلامية بواسطة الخوازرميات الموجهة.
تجديد ريادة الصحافة التونسية في الإصلاح والتحديث
وفي خضم هذه التحولات المتسارعة على ساحة الميديا وتوابعها عبر العالم، تجد صحافة تونس نفسها ، رغم هشاشتها الهيكلية وتقلبات الزمان، وقوى الشد إلى الوراء، في مكانة فضلى للمضي قدما في مواصلة إنجاح إصلاح أوضاعها الإعلامية والسياسية، مستندة إلى إرثها الرائد في مجال الحركة الاصلاحية النابعة من الذات والخصوصية، والتي مر عليها اليوم أكثر من قرن ونصف، منذ إنشاء صحيفة "الرائد التونسي" عام 1860 وإصدار دستور عهد الأمان في نفس السنة ، بعد أن كان أوقفها انتصاب الاستعمار، ثم استأنفتها، بكل تصميم ، مع دولة الاستقلال الوطني بكل نجاحاتها وخيباتها، وصولا اليوم وغدا إلى تجاوز مرحلة التحديث السلطوي العمودي التي عاشتها، نحو مرحلة التحديث الديمقراطي الأفقي المنشودة، على غرار ما هو موجود من أنظمة سياسية وإعلامية في المحيط القريب والبعيد لتونس .
والهدف النهائي ، يبقى ، رغم التعثرات، استكمال المنجزات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للدولة الوطنية المسجلة على مدى أكثر من نصف قرن من زمن الاستقلال، بل على مدى قرن ونصف من حركة الإصلاح الذاتي الوطني، وحتى يساهم الإعلام في بناء ومأسسة حرية التعبير والتعددية والديمقراطية في النص والممارسة، وإنجاح المسار الانتقالي في شقيه السياسي والإعلامي، تكريسا لمقولة المصلح خيرالدين التونسي الواردة في كتابه الصادر عام 1867 "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك"، والتي يقول فيها : " إن الحرية هي أساس تقدم الشعوب. وإن الصحافة والطباعة، تلعبان دورا هاما في مسعى التقريب بين الشعوب" .
بقلم د. الصحراوي قمعون
(صحفي كاتب باحث في علوم الإعلام والصحافة)
أمام الأزمة الهيكلية التي تعيشها اليوم الصحافة التونسية وما تمثله الوسائط الالكترونية من تهديد لها، ينضاف إليها انسحاب الدولة من المشهد الإعلامي خلال العشرية المنقضية بدعوى حرية الإعلام واحترام مسار الانتقال الديمقراطي ، فإن مطالب المهنيين والخبراء ما انفكت تدعو الدولة الى استئناف دعمها للصحافة، كما في البلدان الديمقراطية حولنا، ضمانا لحق المواطن في إعلام حر وتعددي، ومنعا لوقوع الصحافة فريسة لقوى المال والتجاذبات السياسية، مما يؤدي إلى توجيه الرأي العام وإفساد الحياة السياسية، ووأد الانتقال الديمقراطي نفسه في النهاية.
وفي المقابل، فإن واقع الإعلام والصحافة التونسية بالخصوص يتطلب اليوم قيامها من جهتها بإصلاح أوضاعها الداخلية في سبيل إنجاح وتحقيق انتقالها الرقمي السلس نحو صحافة الغد الرقمي. ويتطلب ذلك إعادة هيكلة أساليب العمل والتصرف الرشيد في المؤسسة الصحفية والإعلامية عبر برامج جديدة للإصلاح الهيكلي كتلك التي تشهدها المؤسسات الاقتصادية الناجحة ، وذلك من أجل كسب رهان التنافسية في فضاء إعلامي أضحى مفتوحا على الصعيد الوطني والعالمي.
ويمكن الاستئناس بالتجارب الرائدة حولنا في الانتقال الرقمي والتكنولوجي في فرنسا مثلا لمعرفة حجم الجهود المبذولة في هذا البلد وغيره من البلدان الأوروبية للاندراج في ديناميكية المستقبل الرقمي والذكاء الاصطناعي.
تحديات العصر الإلكتروني
ويجدر التذكير في هذا الباب أنه في تونس كما في سائر بلدان العالم ، لازالت اليوم وغدا، تطرح تساؤلات مصيرية حول مستقبل الصحافة الورقية أمام الصحافة الالكترونية الزاحفة، وهل هي نهاية الصحافة المكتوبة بعد أربعة قرون من الوجود .
فمنذ ظهور الانترنات ومحامل الميديا الجديدة مع شبكات التواصل الاجتماعي والانتقال إلى عصر ما بعد الميديا (بُوسْتْ مِيدِيَا)، أصبحت الصحافة الورقية في تونس وفي أرجاء العالم تعاني الكساد والتراجع في المبيعات والمداخيل وفي مجال التأثير على الرأي العالم، بسبب التغير الكبير في عادات القراءة، بعد أن أصبح المتلقي هو نفسه باثًّا للمادة الإعلامية والإخبارية عبر جهازه المعلوماتي لهاتفه النقال المزود بكاميرا وميكروفون ولوحة مفاتيح كتابة وزر بث آني للجميع بسرعة البرق، بقطع النظر عن كل الإشكاليات المطروحة على الميديا الجديدة على مستوى جودة الأخبار وصدقيتها وإمكانيات التلاعب بها وبالتالي بالرأي العام .
هكذا مثلما أحالت أمس المطبعة ومخترعها غوتنبارغ عام 1550 النساخين والوراقين اليدويين على المعاش ، ها هي الميديا الجديدة تكاد تحيل اليوم على المعاش الصحف الورقية المطبعية، بعد أن أصبحت النسخة الالكترونية للصحف السيارة متوفرة دون ورق على الشبكة العنكبوتية .
حتمية الانتقال الرقمي الصحفي
وأمام هذا الخطر الداهم تحركت العديد من الصحف الغربية خلال العشرية الأخيرة لتحقيق ما أطلق عليه "الانتقال الرقمي" للصحافة من الورقي الكامل إلى الإلكتروني الورقي المزدوج . وقد جددت تلك الصحف أساليب انتشارها بتطوير نسخها الإلكترونية بتطبيقات ملائمة للصيغة الإلكترونية على جهار الكمبيوتر أو الهاتف النقال .
وبالتوازي مع النسخة الورقية، بعثت تلك الصحف نسخا الكترونية أصلية أو معدلة مع المحتوى الورقي، وبعض مقالاتها كتب خصيصا للنسخة الكترونية مدفوعة القراءة الإلكترونية، حسب طلب القارئ وإمكانياته المالية بصيغ ترويجية مبسطة ومغرية للجميع، استخدمت فيها التقنيات الاتصالية الترويجية الإشهارية لمواد المجتمع الاستهلاكي وبيع المقالات للمتصفح بالتقسيط أو بالقطعة وحسب الطلب كما تبيع خدماتها شركات الخدمات الهاتفية وغيرها. وأدى ذلك إلى زيادة المداخيل والإشهار للصحيفة الذي أصبح بمدخولين: ورقي وإلكتروني، بعد أن كان بمدخول واحد (ورقي).
ازدهار بعد إفلاس في الصحافة الفرنسية
وتفيد مختلف تجارب الانتقال الرقمي للصحافة في بلدان الغرب الأمريكي والأوروبي، توصل الصحف فيها إلى إنجاح هذا التوجه الجديد الضامن لمستقبل الصحافة التقليدية في المستقبل الالكتروني . والأمثلة عديدة مدعومة بالأرقام الصادرة عن هذه المؤسسات المزدهرة بعد أن كانت مهددة بالغلق .
ففي فرنسا مثلا القريبة منا لغويا، باعتبارنا نطالع صحفها ونعرف خلفياتها وأوضاعها ويسهل استنساخ تجاربها في محيطنا الخاص ، أظهرت بيانات الحصيلة التي نشرتها صحيفة "لوموند" في عددها ليوم 7 جويلية 2020 أن سنة 2019 كانت إيجابية من ناحية التوازنات المالية للمؤسسة الصحفية، بعد أن ضاعفت الصحيفة ومجموعة النشريات الصادرة عنها، رقم معاملاتها وعدد المشتركين في النشرات الإلكترونية لها . وللسنة الثالثة على التوالي، حققت الصحيفة مرابيح بقيمة 2 فاصل ستة مليون يورو . وبلغ رقم معاملاتها 302 مليون يورو، حسب نفس المصدر. كما ارتفعت نسبة الاشتراكات الرقمية بنسبة 29 بالمائة، وبلغت نهاية عام 2019 أكثر من 220 ألف مشترك رقمي .
أما المجلات التابعة لصحيفة "لوموند" فقد شهدت نفس الارتفاع الرقمي في الاشتراكات، ووصلت مجلة " كُورِييه أنترناسيونال" إلى 55 ألف مشترك في جوان 2020 . أما الصحيفة الشهرية المعروفة بتحاليلها السياسية المعمقة "لوموند ديبلوماتيك" فسجلت 21 ألف مشترك رقمي. وبلغت في نفس عام 2019 نسبة الرقمي في مداخيل الصحف 27 في المائة بالنسبة ليومية " لوموند" مقابل 15 بالمائة عام 2014.
وبينت الصحيفة الفرنسية أنها حققت ذلك بفضل تطوير المنتوج الصحفي الرقمي ضمن استراتيجية طموحة في معالجة محتوى التحرير وتحيينه وتكييفه حسب طلب القراء الجدد من الجيل الجديد واعتماد التطبيقة الخوارزمية الملائمة لذلك الجيل على مستوى الإخراج والعنونة الملائمة مع المحافظة على المحتوى الجيد للصحافة .
ونفس النتيجة حققتها الصحيفة الإلكترونية الفرنسية المختصة في الصحافة الاستقصائية " مِيدِيَا بَارْتْ" خلال عام 2020 ، حيث سجلت مرابيح بأربعة ملايين يورو، بزيادة بنسبة سبعين بالمائة عن السنة التي سبقتها، مما أدى إلى ارتفاع رقم معاملاتها بـ 22 بالمائة ليصل إلى 20 مليون يورو، وذلك رغم جائحة كورونا في تلك السنة، التي تسببت في توقف عملية توزيع الصحافة التقليدية واختناقها واندثار الكثير من عناوينها وتراجع مجمل الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية بسبب الإقفال عبر العالم . وقد سجلت "ميديا بارت" في تلك السنة قرابة ربع مليون مشترك رقمي (218 ألف مشترك). كما انتدبت في تلك السنة بفضل هذا الازدهار، ثلاثين صحافيا وصحافية من الشباب معتمدة على مبدا التناصف بين الرجال والنساء في هيئة تحريرها، ليرتفع بذلك عدد صحافييها وصحافياتها إلى 118.
علما بأن هذه الصحيفة الرقمية التي تأسست عام 2008 ، لا تعول في توازنها المالي على مداخيل الإشهار، بل فقط على مداخيل المشتركين، وهي في ذلك مثل صحيفة " لُوكَانَارْ أُونْشِيني" الورقية والإكترونية التي تعول على مشتركيها منذ إنشائها عام 1915 ضمَانا لاستقلالها . وقد حققت أيضا في تلك السنة فوائض عبر الاشتراكات الرقمية، وهو ما حدا بمجلة " لُوبْوَانْ " الأسبوعية أن تعنون في مقال تحليلي حول هذه الظاهرة الجديدة في الانتقال الصحفي " إنه الجري وراء ذهب الاشتراكات الرقمية".(انظر النسخة الالكترونية للمجلة بتاريخ 18 مارس 2021).
وقد تحقق ذلك أيضا على الصعيد الخارجي للصحف، بفضل عملية إعادة هيكلة مستمرة وعميقة للمؤسسات الإعلامية المكتوبة ودخولها في شراكات مالية ومساهمات في الأسهم ورأس المال دون حدود إيديولوجية للتوجهات التحريرية ، عبر شراء بعض العناوين وإدماج أخرى مع مؤسسات إعلامية اتصالية تنافسية على الساحة، أخرجت الصحافة المكتوبة الورقية المحتضرة، من إطارها الهيكلي والقانوني التقليدي الذي يعود لعشريات من الزمن دون تغيير أو تطوير ذاتي جوهري، أملته اليوم تحولات العصر الرقمي المفروض.
ديمومة الصحافة النبيلة
ويعكس هذا المسار الإيجابي في أمثلة الانتقال والتكيف، خلود الصحافة وتجاوزها كل الصعاب والتحديات التي هددت وجودها منذ ظهور أول صحيفة في العالم عام 1635 وهي " لاغازيت" الفرنسية. واستطاعت الصحافة، منذ ذلك الوقت أن تواجه أول مزاحم لها وهي وكالات الأنباء الناشئة عام 1835 . ثم استطاعات أن تواجه ظهور الراديو وتأثيره السحري بداية القرن العشرين (1900) ثم ظهور التلفزيون بأضوائه المبهرة في منتصف القرن العشرين (1950)، ثم ظهور الانترنات نهاية القرن العشرين (1990)، ثم ظهور شبكات التواصل الإجتماعي التفاعلية "فيس بوك" بداية القرن الحادي والعشرين (2002) .
وكانت الصحافة في كل تلك التحولات مثل طائر العنقاء الأسطوري الذي يعاود الخروج حيا من تحت الرماد. ولعل كل ذلك يترك باب الأمل مفتوحا أمام الصحافة النبيلة للتسلح بالقدرة على التأقلم مع المستجدات ومع ثورة تكنولوجيا المعلومات والذكاء الصناعي في المستقبل، الذي لا يعرف حدودا للتطور الإنساني ويبقى مفتوحا على كل "الحتميات التكنولوجية"، كما تنبأ بذلك عالم الاتصال الكندي مارشال ماكلوهان منذ عام 1960 في كتابه عن "القرية الكونية".
وتطرح في هذا السياق المستقبلي تحديات جديدة على الصحافة، خاصة وأن الزمن الإعلامي أو الميدياتيكي قد تغير بصفة صاروخية خلال العشريتين الأخيرتين من بداية هذا القرن بالانتقال الفجئي من حقبة الميديا التقليدية الجماهيرية (مَاسْ مِيديا)، إلى حقبة ما بعد الميديا (بُوسْطْ مِيديَا) القائمة على شبكات التواصل الاجتماعي التفاعلية، باعتبارها ميديا فردية وذاتية (سَالْفْ مِيدِيَا) تجعل من الممكن، لكل فرد باث/متلقي/باث، أن يعيش في كوكب خاص وعالم خاص به، وبمريديه أو أستاذه الروحي الافتراضي.
وهذا الأمر أكده العديد من منظري الإعلام والسياسة في الغرب المتطور في دراسات وكتب كثيرة صدرت خلال السنوات القليلة الماضين من ضمنهم عالم الاقتصاد والإعلام والاستشراف جاك أتالي المستشار السياسي للرئيس الفرنسي الاسبق فرانسوا ميتيران في كتابه الأخير الصادر عام 2021 بعنوان" تاريخ الميديا: من إشارات الدخان إلى الشبكات الاجتماعية وما بعدها"، بالقول إن الصحافة منذ القرن السادس عشر قد عرفت كيف تتأقلم مع التحولات التكنولوجية، وصولا إلى شبكات التواصل الاجتماعي الحالية وما بعدها التي أصبح من خلالها مالكو هذه الشبكات يملكون المعلومات عن الأفراد أكثر من السلطات، وهو ما يدعو إلى ترويض هذه الشبكات والشركات التي تقف وراءها والتي تتحكم في مسارات الحياة السياسية والإعلامية بواسطة الخوازرميات الموجهة.
تجديد ريادة الصحافة التونسية في الإصلاح والتحديث
وفي خضم هذه التحولات المتسارعة على ساحة الميديا وتوابعها عبر العالم، تجد صحافة تونس نفسها ، رغم هشاشتها الهيكلية وتقلبات الزمان، وقوى الشد إلى الوراء، في مكانة فضلى للمضي قدما في مواصلة إنجاح إصلاح أوضاعها الإعلامية والسياسية، مستندة إلى إرثها الرائد في مجال الحركة الاصلاحية النابعة من الذات والخصوصية، والتي مر عليها اليوم أكثر من قرن ونصف، منذ إنشاء صحيفة "الرائد التونسي" عام 1860 وإصدار دستور عهد الأمان في نفس السنة ، بعد أن كان أوقفها انتصاب الاستعمار، ثم استأنفتها، بكل تصميم ، مع دولة الاستقلال الوطني بكل نجاحاتها وخيباتها، وصولا اليوم وغدا إلى تجاوز مرحلة التحديث السلطوي العمودي التي عاشتها، نحو مرحلة التحديث الديمقراطي الأفقي المنشودة، على غرار ما هو موجود من أنظمة سياسية وإعلامية في المحيط القريب والبعيد لتونس .
والهدف النهائي ، يبقى ، رغم التعثرات، استكمال المنجزات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للدولة الوطنية المسجلة على مدى أكثر من نصف قرن من زمن الاستقلال، بل على مدى قرن ونصف من حركة الإصلاح الذاتي الوطني، وحتى يساهم الإعلام في بناء ومأسسة حرية التعبير والتعددية والديمقراطية في النص والممارسة، وإنجاح المسار الانتقالي في شقيه السياسي والإعلامي، تكريسا لمقولة المصلح خيرالدين التونسي الواردة في كتابه الصادر عام 1867 "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك"، والتي يقول فيها : " إن الحرية هي أساس تقدم الشعوب. وإن الصحافة والطباعة، تلعبان دورا هاما في مسعى التقريب بين الشعوب" .