في عديد المقالات السابقة حول قضايا وطنية أو دولية كانت الخلاصة في الأسطر الأخيرة بعد الانتهاء من التحليل، امّا هذه المرة فالموقف الختامي هو المنطلق. ومن البداية نقول ان روسيا لن تتدخل عسكريا في أكرانيا كما ان "الازمة الاوكرانية" لها علاقة جزئية بهذا البلد الذي يوظف كركح لمسرحية جيو استراتيجية كونية ادوارها مقسمة بين روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي وبريطانيا والصين المستفيد الاكبر رغم الغياب المباشر في المحاورات التي لم ترتق الى حد الان لمفاوضات قادرة على انهاء الازمة.
ومن منطلق حرص روسيا على تصحيح الإيمان الخاطئ بتراجع قدرتها على ايذاء جوارها الاوروبي استغلت الازمة العالقة مع اكرانيا لجر الولايات المتحدة لمسار حرب باردة جديدة وهي التي تسعى الى إغلاق الملفات العسكرية والامنية التي انخرطت فيها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لتركز على حربها الباردة الجديدة في آسيا والمحيط الهادئ بسبب تراجع القدرة على تمويل دور الشرطي الكوني والانفاق على حلف الناتو الذي تحول الى تركة ثقيلة لا جدوى لها في تنفيذ التوجهات الاستراتيجية الجديدة لاحتواء الصين ولمواجهة كوريا الشمالية.
وبناء على القناعة الراسخة لروسيا بحالة إعياء الجيوش الغربية بعد مغامرة الصومال والعراق وافغانستان وسوريا وليبيا وجنوب الصحراء الافريقي، استغل الكرملين ملف اكرانيا لارغام امريكا على التفاوض المباشر حول اعادة ترتيب الهيكلة الامنية بأوروبا في اطار خيارين لا ثالث لهما.
الاول: هو حصول روسيا بصفة غير مباشرة على اتفاق مناولة للوصاية الامنية على دول الاتحاد الاوروبي العاجز عن اكتساب قدرات دفاعية استراتيجية، خاصة بعد البريكسيت، وفي المقابل ينقص العبء عن الولايات المتحدة للتفرغ لأجنداتها الآسيوية.
والخيار الثاني: احياء كابوس الحرب الباردة مع روسيا وفرض التوتر على دول الاتحاد الاوربي وتركيعها اقتصاديا بدفعها للانفاق على التسلح وتحويل دول اوروبا الشرقية والبلطيق واكرانيا الى حزام توتر غير ملائم للتنمية وخطير على الاستثمار والتجارة .
وقد تمكنت روسيا من خلال تحريك جيشها على الحدود الأوكرانية والاعلان عن مناورات برية مع روسيا البيضاء ومناورات بحرية "كونية" ، في البحر الابيض المتوسط وفي كل المحيطات بمجموع 140 بارجة حربية و60 طائرة، من اظهار الوزن الاستراتيجي الحقيقي للدول الاوروبية وحليفهم الاطلسي امام سيناريو مواجهة عسكرية محتملة. ويعتبر تكرر التهديدات ضد روسيا "بالعقوبات الاقتصادية غير المسبوقة" تاكيدا لتوقعات روسيا حول نتائج امتحان الردع الذي طرحته على الغرب الاوروبي-الاطلسي الذي قال في نهاية المطاف ضمنيا انه سيقبل باي عمل عسكري في اكرانيا وليس بامكانه الرد على ذلك سوى بعقوبات اقتصادية حادة وهذه ورقة لا تنفع في التفاوض مع روسيا اذ يبدو انه غاب عن دول الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة الامريكية ان روسيا وايران والصين وكوريا الشمالية وسوريا وكوبا وفينيزويلا (ومالي مستقبلا) قد استوعبوا دروس الماضي ونجحوا تدريجيا في تنفيذ خطط فك الارتباط مع الغرب تحضيرا لعالم جديد ذو ثنائية اقتصادية يسمح بالاستغناء عن التعامل مع الغرب الموسع. وبالتمعن في الخطاب السياسي للدول المذكورة يظهر بجلاء انها لا تثق في الدول الغربية التي تحركها مصالح ذاتية امبريالية تحرص على إخفاؤها وراء شعارات حقوق الانسان والديمقراطية التي رافقها دائما ثنائية في المعايير والكيل بمكيالين كما ظهر في التعامل الشديد مع مالي بالعقوبات والسكوت على نفس التمشي في التشاد لولاء ابن الرئيس الراحل الذي تولى الحكم لفرنسا.
ويتكرر في سردية الرسميين والمحللين السياسيين القريبين من روسيا وحلفائها الاستشهاد بحصيلة خمس وسبعين سنة من السياسات الخارجية الغربية ميزتها الانقلابات والاغتيالات والابتزاز والعقوبات الاقتصادية المدمرة لدول وشعوب أخذت رهينة في الصراع من أجل الطاقة والامثلة عديدة في افريقيا وامريكا اللاتينية (الشيلي والارجنتين وكوبا) والشرق الاوسط وآسيا.
وما تم منذ بداية تسعينات القرن الماضي من اعتداء على الشرعية الدولية وحصار لوكربي على ليبيا والعدوان عليها في 2011 والحرب على العراق التي بنيت على فبركة وتلاعب بمجلس الامن وتدمير اليمن كلها تجارب اسقطت ورقة التفاضل بالتفوق الديمقراطي للغرب عموما في التفاوض مع روسيا التي تدرك خاصة من خلال تجربتها في سوريا حقيقة الاجندات التي تتستر تحت راية مناصرة الديمقراطية ولم يعد خافيا ان العدوان خلفيته الحقيقية السعي لتركيز حكم بديل في سوريا موالي للغرب يقبل بتزويد اوروبا بالطاقة من الشرق الاوسط عبر الاراضي السورية وتركيا لتركيع روسيا بفك الارتباط الطاقي معها
بين المبادرة ورد الفعل
روسيا خططت تكتيكيا بكل إحكام للازمة في اكرانيا لتكون لها المبادرة وتجر الغرب لرد الفعل الى حد " الهستيريا " على قول لافروف وزير الخارجية الروسي. وقد كانت إجابة الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي متطابقة مع ما كان ينتظره الكرملين فالتهديد بالعقوبات وخاصة بفصل روسيا من نظام الاتصال البنكي "سويفت" اكد من جهة ان هذه الاطراف ليست في مستوى المواجهة العسكرية ومن جهة أخرى انها لا تتردد في استغلال سيطرتها على انظمة الاتصال لمحاصرة الدول وهذا تحديدا ما ارادت روسيا تاكيده للصين وعدة دول حليفة أخرى للتسريع في بعث انظمة لتسوية المعاملات المالية بشكل مستقل عن سطوة الدولار واليورو. وان روسيا المكونة من خليط ديني مسيحي اورتودوكسي واسلامي متمسك بما اعتبره بوتين "ركائز المجتمع البديهية" وخاصة بمؤسسة العائلة اصبحت تجاهر بالتباعد الثقافي مع الغرب ولا تخفي انها غير معنية بالتقارب معه وترى نفسها اخلاقيا في انسجام مع فضاءات عقائدية ومجتمعية أخرى بعيدة عن أوروبا تتمسك بقداسة مؤسسة العائلة وترفض زواج المثليين الذي اعتبره بوتين مؤخرا "من الشذوذ المخالف للفطرة البشرية وللبديهيات الطبيعي".
روسيا حسب مفكريها وقادتها السياسيين تمكنت من احتواء محاولات تخريبها من الداخل بزرع الفكر الاصولي الاسلامي وحددت الاطر الضرورية لتعايش القوميات والاديان مع احترام الخطوط الحمراء من حيث عدم المساس بالمقدسات سواء اليهودية او المسيحية او الاسلامية . والنجاح في هذا الامتحان، الذي فشلت فيه الصين (وضع المسلمين الايغور) والهند (تصاعد العنصرية الهندوسية) ويتخبط فيه الغرب بسبب تصاعد اليمين، مكّن روسيا من الحضور عسكريا في عدة مناطق من العالم كطرف مرحب به له القدرة على تقديم المساعدة العسكرية والمشاركة في التدريب والاسناد العسكري بضباط متعددي الخلفية الدينية والثقافية قادرين على مراعاة الخصوصيات الثقافية والدينية لمسارح العمليات وهو ما تؤكده تجربة افريقيا الوسطى وسوريا وليبيا ومؤخرا مالي. هذا فضلا عن ان القوات الروسية لا تثير بحضورها الاحترازات التاريخية كما هو الحال تجاه القوات الغربية التي تجر خلفها الماضي الاستعماري الذي تغذية باستمرار تصرفات وتصريحات زعماء غربيين مستفزة مثل تصريح ساركوزي في ساحل العاج حول فضل الاستعمار على افريقيا او خطابات التعالي لماكرون ودونالد ترامب.
اكرانيا بروفة لتايوان
روسيا التي لا تقبل بان تكون مجرد فصل في مجلد تاريخ الدراسات الاستراتيجية تتمسك بموقعها في التوازنات الكونية واستغلت ملف اكرانيا لتوجيه رسالة ثنائية للصين والولايات المتحدة الامريكية. اما بالنسبة للصين فان ما يجري بين روسيا واوروبا والولايات المتحدة هو عرض تجريبي لسيناريو ضم تايوان اذ تظهر روسيا للصين ان الغرب الذي خرج هاربا من افغانستان ويغادر تدريجيا الشرق الاوسط ومنطقة جنوب الصحراء لن يغامر بمواجهة عسكرية من اجل اي ملف خارج اراضيه في المستقبل. وبالنسبة لامريكا نجحت روسيا في الكشف عن تصدع جبهة الغرب والناتو التي تتجلى من خلال اشتراك عدة دول من اوروبا الشرقية ،الكاتوليكية المحافظة، مع روسيا في التوجه المجتمعي والاخلاقي الرافض لتوجهات المثلية والمساس بالرموز الدينية والمقدسات تحت راية حرية التعبير. وعلى الصعيد العسكري شقت روسيا شرخا داخل الناتو بالتعاون العسكري مع تركيا التي تزودت بمنظومة الدفاع الجوي الروسية S 400 فضلا عن اختلاف المواقف بالنسبة لتزويد اكرانيا بالعتاد العسكري حيث ترفضه المانيا بشدة وقبلت به دول البلطيق وبريطانيا وامريكا في حدود العتاد الدفاعي وإن كان عسكريا لا يمكن بسهولة التفرقة بين الدفاعي والهجومي بسبب خاصية الاستعمال المزدوج لكل التجهيزات. ولعل اهم ما توصلت اليه روسيا بادارتها للازمة الحالية هو التباين بين مواقف السياسيين في الغرب وبين بعض رموز هياكلها الامنية والعسكرية التي يبدو ان لها قراءة مغايرة للوضع وللمصالح الاستراتيجية ولعل تصريحات قائد القوات البحرية الالمانية "كاي آخين شونباخ" لخير مثال على هذا اذ صرح في محاضرة القاها في معهد للدراسات الاستراتيجية بالهند بان "روسيا لن تعتدي على اكرانيا" وان "شبه جزيرة القرم لا يمكن استرجاعها" وان "ما يحتاجه وربما يستحقه بوتين هو المعاملة باحترام " مع التاكيد على " اهمية روسيا كحليف مسيحي في المنافسة مع الصين". وامام الضغط السياسي الداخلي والاحتجاج الدبلوماسي الاوكراني اعتذر شونباخ عن الادلاء " بارائه الشخصية " وفضل الاستقالة من خطته يوم 22 جانفي 2022. ورغم انتصار أكرانيا في هذه الجولة الدبلوماسية وفقدان الجيش الالماني لأحد اقدر الكفاءات في قيادة قوات البحرية فان الجميع في الغرب وفي الناتو يعلم صحة تحليل الضابط السامي شونباخ التي يتبناها عديد الاعلاميين والسياسيين في اوروبا وخاصة في المانيا. وفي سياق اوسع وجبت الاشارة الى ان الحرب الاخيرة على غزة اظهرت اهمية إيران وروسيا كلاعبين اقليميين في النزاع الشرق اوسطي وفاعلية روسيا كمفتاح للتهدئة ولتخفيف الضغط على اسرائيل امام عجز الدول الغربية على التفاوض المباشر مع حماس كما يدرك المفاوضون الغربيون الدور غير المباشر لروسيا وحليفتها ايران في قدرات الحوثيين وفي ضرب مصالح الغرب بالوكالة كما جرى موخرا في القصف على دولة الامارات العربية. وكل هذه المعطيات لا تغيب حتما على المفاوضين ودوائر الاسناد الفكري التي تحلل المشهد في شموليته. وفي الختام نعود الى المنطلق لنقول ان روسيا لن تجتاح ولن تعتدي على أكرانيا لانها حققت المستهدف من الازمة الدائرة وخاصة بضمان: التموقع على الساحة الدولية وتكريس ثلاثية ابعاد الريادة الاستراتيجية في العالم بين الصين والولايات المتحدة الامريكية وروسيا. فرض اعادة رسم الهيكلة الامنية لاوروبا بمراعاة مصالح روسيا وهو ما جاء بوضوح في كلمة الرئيس الفرنسي امام البرلمان الاوروبي بمناسبة تولي بلاده لرئاسة مجلس الاتحاد من بداية 2022 الذي دعا "لوضع هيكلة امنية جديدة في حوار مع روسيا" خلط اوراق الغرب اقتصاديا بدفعه الى الانفاق العسكري تحت الضغط لاحداث توازن ردع مع روسيا بعد ان تصور ان التحديات الامنية ستنحصر مستقبلا في آسيا وفي مقاومة جيوب الارهاب والحروب غير الازدواجية. رسم حدود القطيعة الثقافية والمجتمعية تجاه منوال المجتمع الغربي اللبرالي المرفوض من قبل الغالبية العظمى للمجتمع الروسي بمختلف مكوناته العرقية والدينية. اعطاء اشارة الانطلاق لحضور عسكري واقتصادي لروسيا والصين في المناطق والدول التي لم تعد تقبل بالسيطرة الغربية وبالابتزاز بالعقوبات مع التاكيد على ان الزمن الذي دمرت فيه دول باكملها وقتل قادتها وضربت فيه مصالح روسيا كما تم في ليبيا والعراق قد انتهى ولن ُيسمح بان يتكرر ثانية.
(*) خبير في العلاقات الدولية
بقلم:حامد بن إبراهيم(*)
في عديد المقالات السابقة حول قضايا وطنية أو دولية كانت الخلاصة في الأسطر الأخيرة بعد الانتهاء من التحليل، امّا هذه المرة فالموقف الختامي هو المنطلق. ومن البداية نقول ان روسيا لن تتدخل عسكريا في أكرانيا كما ان "الازمة الاوكرانية" لها علاقة جزئية بهذا البلد الذي يوظف كركح لمسرحية جيو استراتيجية كونية ادوارها مقسمة بين روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي وبريطانيا والصين المستفيد الاكبر رغم الغياب المباشر في المحاورات التي لم ترتق الى حد الان لمفاوضات قادرة على انهاء الازمة.
ومن منطلق حرص روسيا على تصحيح الإيمان الخاطئ بتراجع قدرتها على ايذاء جوارها الاوروبي استغلت الازمة العالقة مع اكرانيا لجر الولايات المتحدة لمسار حرب باردة جديدة وهي التي تسعى الى إغلاق الملفات العسكرية والامنية التي انخرطت فيها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لتركز على حربها الباردة الجديدة في آسيا والمحيط الهادئ بسبب تراجع القدرة على تمويل دور الشرطي الكوني والانفاق على حلف الناتو الذي تحول الى تركة ثقيلة لا جدوى لها في تنفيذ التوجهات الاستراتيجية الجديدة لاحتواء الصين ولمواجهة كوريا الشمالية.
وبناء على القناعة الراسخة لروسيا بحالة إعياء الجيوش الغربية بعد مغامرة الصومال والعراق وافغانستان وسوريا وليبيا وجنوب الصحراء الافريقي، استغل الكرملين ملف اكرانيا لارغام امريكا على التفاوض المباشر حول اعادة ترتيب الهيكلة الامنية بأوروبا في اطار خيارين لا ثالث لهما.
الاول: هو حصول روسيا بصفة غير مباشرة على اتفاق مناولة للوصاية الامنية على دول الاتحاد الاوروبي العاجز عن اكتساب قدرات دفاعية استراتيجية، خاصة بعد البريكسيت، وفي المقابل ينقص العبء عن الولايات المتحدة للتفرغ لأجنداتها الآسيوية.
والخيار الثاني: احياء كابوس الحرب الباردة مع روسيا وفرض التوتر على دول الاتحاد الاوربي وتركيعها اقتصاديا بدفعها للانفاق على التسلح وتحويل دول اوروبا الشرقية والبلطيق واكرانيا الى حزام توتر غير ملائم للتنمية وخطير على الاستثمار والتجارة .
وقد تمكنت روسيا من خلال تحريك جيشها على الحدود الأوكرانية والاعلان عن مناورات برية مع روسيا البيضاء ومناورات بحرية "كونية" ، في البحر الابيض المتوسط وفي كل المحيطات بمجموع 140 بارجة حربية و60 طائرة، من اظهار الوزن الاستراتيجي الحقيقي للدول الاوروبية وحليفهم الاطلسي امام سيناريو مواجهة عسكرية محتملة. ويعتبر تكرر التهديدات ضد روسيا "بالعقوبات الاقتصادية غير المسبوقة" تاكيدا لتوقعات روسيا حول نتائج امتحان الردع الذي طرحته على الغرب الاوروبي-الاطلسي الذي قال في نهاية المطاف ضمنيا انه سيقبل باي عمل عسكري في اكرانيا وليس بامكانه الرد على ذلك سوى بعقوبات اقتصادية حادة وهذه ورقة لا تنفع في التفاوض مع روسيا اذ يبدو انه غاب عن دول الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة الامريكية ان روسيا وايران والصين وكوريا الشمالية وسوريا وكوبا وفينيزويلا (ومالي مستقبلا) قد استوعبوا دروس الماضي ونجحوا تدريجيا في تنفيذ خطط فك الارتباط مع الغرب تحضيرا لعالم جديد ذو ثنائية اقتصادية يسمح بالاستغناء عن التعامل مع الغرب الموسع. وبالتمعن في الخطاب السياسي للدول المذكورة يظهر بجلاء انها لا تثق في الدول الغربية التي تحركها مصالح ذاتية امبريالية تحرص على إخفاؤها وراء شعارات حقوق الانسان والديمقراطية التي رافقها دائما ثنائية في المعايير والكيل بمكيالين كما ظهر في التعامل الشديد مع مالي بالعقوبات والسكوت على نفس التمشي في التشاد لولاء ابن الرئيس الراحل الذي تولى الحكم لفرنسا.
ويتكرر في سردية الرسميين والمحللين السياسيين القريبين من روسيا وحلفائها الاستشهاد بحصيلة خمس وسبعين سنة من السياسات الخارجية الغربية ميزتها الانقلابات والاغتيالات والابتزاز والعقوبات الاقتصادية المدمرة لدول وشعوب أخذت رهينة في الصراع من أجل الطاقة والامثلة عديدة في افريقيا وامريكا اللاتينية (الشيلي والارجنتين وكوبا) والشرق الاوسط وآسيا.
وما تم منذ بداية تسعينات القرن الماضي من اعتداء على الشرعية الدولية وحصار لوكربي على ليبيا والعدوان عليها في 2011 والحرب على العراق التي بنيت على فبركة وتلاعب بمجلس الامن وتدمير اليمن كلها تجارب اسقطت ورقة التفاضل بالتفوق الديمقراطي للغرب عموما في التفاوض مع روسيا التي تدرك خاصة من خلال تجربتها في سوريا حقيقة الاجندات التي تتستر تحت راية مناصرة الديمقراطية ولم يعد خافيا ان العدوان خلفيته الحقيقية السعي لتركيز حكم بديل في سوريا موالي للغرب يقبل بتزويد اوروبا بالطاقة من الشرق الاوسط عبر الاراضي السورية وتركيا لتركيع روسيا بفك الارتباط الطاقي معها
بين المبادرة ورد الفعل
روسيا خططت تكتيكيا بكل إحكام للازمة في اكرانيا لتكون لها المبادرة وتجر الغرب لرد الفعل الى حد " الهستيريا " على قول لافروف وزير الخارجية الروسي. وقد كانت إجابة الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي متطابقة مع ما كان ينتظره الكرملين فالتهديد بالعقوبات وخاصة بفصل روسيا من نظام الاتصال البنكي "سويفت" اكد من جهة ان هذه الاطراف ليست في مستوى المواجهة العسكرية ومن جهة أخرى انها لا تتردد في استغلال سيطرتها على انظمة الاتصال لمحاصرة الدول وهذا تحديدا ما ارادت روسيا تاكيده للصين وعدة دول حليفة أخرى للتسريع في بعث انظمة لتسوية المعاملات المالية بشكل مستقل عن سطوة الدولار واليورو. وان روسيا المكونة من خليط ديني مسيحي اورتودوكسي واسلامي متمسك بما اعتبره بوتين "ركائز المجتمع البديهية" وخاصة بمؤسسة العائلة اصبحت تجاهر بالتباعد الثقافي مع الغرب ولا تخفي انها غير معنية بالتقارب معه وترى نفسها اخلاقيا في انسجام مع فضاءات عقائدية ومجتمعية أخرى بعيدة عن أوروبا تتمسك بقداسة مؤسسة العائلة وترفض زواج المثليين الذي اعتبره بوتين مؤخرا "من الشذوذ المخالف للفطرة البشرية وللبديهيات الطبيعي".
روسيا حسب مفكريها وقادتها السياسيين تمكنت من احتواء محاولات تخريبها من الداخل بزرع الفكر الاصولي الاسلامي وحددت الاطر الضرورية لتعايش القوميات والاديان مع احترام الخطوط الحمراء من حيث عدم المساس بالمقدسات سواء اليهودية او المسيحية او الاسلامية . والنجاح في هذا الامتحان، الذي فشلت فيه الصين (وضع المسلمين الايغور) والهند (تصاعد العنصرية الهندوسية) ويتخبط فيه الغرب بسبب تصاعد اليمين، مكّن روسيا من الحضور عسكريا في عدة مناطق من العالم كطرف مرحب به له القدرة على تقديم المساعدة العسكرية والمشاركة في التدريب والاسناد العسكري بضباط متعددي الخلفية الدينية والثقافية قادرين على مراعاة الخصوصيات الثقافية والدينية لمسارح العمليات وهو ما تؤكده تجربة افريقيا الوسطى وسوريا وليبيا ومؤخرا مالي. هذا فضلا عن ان القوات الروسية لا تثير بحضورها الاحترازات التاريخية كما هو الحال تجاه القوات الغربية التي تجر خلفها الماضي الاستعماري الذي تغذية باستمرار تصرفات وتصريحات زعماء غربيين مستفزة مثل تصريح ساركوزي في ساحل العاج حول فضل الاستعمار على افريقيا او خطابات التعالي لماكرون ودونالد ترامب.
اكرانيا بروفة لتايوان
روسيا التي لا تقبل بان تكون مجرد فصل في مجلد تاريخ الدراسات الاستراتيجية تتمسك بموقعها في التوازنات الكونية واستغلت ملف اكرانيا لتوجيه رسالة ثنائية للصين والولايات المتحدة الامريكية. اما بالنسبة للصين فان ما يجري بين روسيا واوروبا والولايات المتحدة هو عرض تجريبي لسيناريو ضم تايوان اذ تظهر روسيا للصين ان الغرب الذي خرج هاربا من افغانستان ويغادر تدريجيا الشرق الاوسط ومنطقة جنوب الصحراء لن يغامر بمواجهة عسكرية من اجل اي ملف خارج اراضيه في المستقبل. وبالنسبة لامريكا نجحت روسيا في الكشف عن تصدع جبهة الغرب والناتو التي تتجلى من خلال اشتراك عدة دول من اوروبا الشرقية ،الكاتوليكية المحافظة، مع روسيا في التوجه المجتمعي والاخلاقي الرافض لتوجهات المثلية والمساس بالرموز الدينية والمقدسات تحت راية حرية التعبير. وعلى الصعيد العسكري شقت روسيا شرخا داخل الناتو بالتعاون العسكري مع تركيا التي تزودت بمنظومة الدفاع الجوي الروسية S 400 فضلا عن اختلاف المواقف بالنسبة لتزويد اكرانيا بالعتاد العسكري حيث ترفضه المانيا بشدة وقبلت به دول البلطيق وبريطانيا وامريكا في حدود العتاد الدفاعي وإن كان عسكريا لا يمكن بسهولة التفرقة بين الدفاعي والهجومي بسبب خاصية الاستعمال المزدوج لكل التجهيزات. ولعل اهم ما توصلت اليه روسيا بادارتها للازمة الحالية هو التباين بين مواقف السياسيين في الغرب وبين بعض رموز هياكلها الامنية والعسكرية التي يبدو ان لها قراءة مغايرة للوضع وللمصالح الاستراتيجية ولعل تصريحات قائد القوات البحرية الالمانية "كاي آخين شونباخ" لخير مثال على هذا اذ صرح في محاضرة القاها في معهد للدراسات الاستراتيجية بالهند بان "روسيا لن تعتدي على اكرانيا" وان "شبه جزيرة القرم لا يمكن استرجاعها" وان "ما يحتاجه وربما يستحقه بوتين هو المعاملة باحترام " مع التاكيد على " اهمية روسيا كحليف مسيحي في المنافسة مع الصين". وامام الضغط السياسي الداخلي والاحتجاج الدبلوماسي الاوكراني اعتذر شونباخ عن الادلاء " بارائه الشخصية " وفضل الاستقالة من خطته يوم 22 جانفي 2022. ورغم انتصار أكرانيا في هذه الجولة الدبلوماسية وفقدان الجيش الالماني لأحد اقدر الكفاءات في قيادة قوات البحرية فان الجميع في الغرب وفي الناتو يعلم صحة تحليل الضابط السامي شونباخ التي يتبناها عديد الاعلاميين والسياسيين في اوروبا وخاصة في المانيا. وفي سياق اوسع وجبت الاشارة الى ان الحرب الاخيرة على غزة اظهرت اهمية إيران وروسيا كلاعبين اقليميين في النزاع الشرق اوسطي وفاعلية روسيا كمفتاح للتهدئة ولتخفيف الضغط على اسرائيل امام عجز الدول الغربية على التفاوض المباشر مع حماس كما يدرك المفاوضون الغربيون الدور غير المباشر لروسيا وحليفتها ايران في قدرات الحوثيين وفي ضرب مصالح الغرب بالوكالة كما جرى موخرا في القصف على دولة الامارات العربية. وكل هذه المعطيات لا تغيب حتما على المفاوضين ودوائر الاسناد الفكري التي تحلل المشهد في شموليته. وفي الختام نعود الى المنطلق لنقول ان روسيا لن تجتاح ولن تعتدي على أكرانيا لانها حققت المستهدف من الازمة الدائرة وخاصة بضمان: التموقع على الساحة الدولية وتكريس ثلاثية ابعاد الريادة الاستراتيجية في العالم بين الصين والولايات المتحدة الامريكية وروسيا. فرض اعادة رسم الهيكلة الامنية لاوروبا بمراعاة مصالح روسيا وهو ما جاء بوضوح في كلمة الرئيس الفرنسي امام البرلمان الاوروبي بمناسبة تولي بلاده لرئاسة مجلس الاتحاد من بداية 2022 الذي دعا "لوضع هيكلة امنية جديدة في حوار مع روسيا" خلط اوراق الغرب اقتصاديا بدفعه الى الانفاق العسكري تحت الضغط لاحداث توازن ردع مع روسيا بعد ان تصور ان التحديات الامنية ستنحصر مستقبلا في آسيا وفي مقاومة جيوب الارهاب والحروب غير الازدواجية. رسم حدود القطيعة الثقافية والمجتمعية تجاه منوال المجتمع الغربي اللبرالي المرفوض من قبل الغالبية العظمى للمجتمع الروسي بمختلف مكوناته العرقية والدينية. اعطاء اشارة الانطلاق لحضور عسكري واقتصادي لروسيا والصين في المناطق والدول التي لم تعد تقبل بالسيطرة الغربية وبالابتزاز بالعقوبات مع التاكيد على ان الزمن الذي دمرت فيه دول باكملها وقتل قادتها وضربت فيه مصالح روسيا كما تم في ليبيا والعراق قد انتهى ولن ُيسمح بان يتكرر ثانية.