إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

"الصباح" في المركب الصحي بجبل الوسط: مركز "أمل" يفتح أمل المدمنين في النجاة من براثن المخدّرات

المدير العام للمركب الصحّي بجبل الوسط: المركز تم فتحه في أفريل 2019 بفلسفة جديدة

 

وفي هذا القسم الذي يأوي ثلاثة مرضى فقط و9 ممرضات وناظرة.. استقبلتنا مروى بابتسامة، وكانت معنوياتها مرتفعة والحماسة بادية على وجهها..، اقتربت منها وطلبت منها أن تتحدث لـ"الصباح" عن تجربتها.. لم تمانع على عكس الشابين الآخرين الموجودين معها بنفس المركز واللذين رفضا الحديث عن تجربتهما في عالم الإدمان..

مروى طلبت مني أن نبتعد قليلا عن المطبخ وقاعة الاستقبال فخرجنا من هناك وجلسنا في مكان منزو وهناك انطلقت في سرد مراحل حياتها بداية من طلاق والديها مرورا بما عاشته من فقد في طفولتها وصولا إلى مرحلة الإدمان..، تحدثت مروى كما لم تتحدث من قبل وكأنها كانت تنتظر من "تفضفض" إليه.

عن حياتها قالت إنها وعلى الرغم من أن والدها كان ميسور الحال وكان يملك عقارات بجهة الساحل ولكنها لم تكن طفلة محظوظة فسرعان ما انتهت طفولتها السعيدة وهي في سن السابعة حين انفصلا والداها لتتزوج والدتها من رجل آخر وتبني لها حياة جديدة لم يكن لمروى مكانا فيها وأما الأب فقد جدد حياته هو الآخر وارتبط بامرأة لم تحسن معاملتها..

تقول مروى وعلى الرغم من محاولات الأب تعويض فقدان حنان الأم حيث حاول لعب دور الأب والأم في آن واحد، ولكنه لم يفلح في اقتلاع الحزن من قلب طفلته الصغيرة التي كانت تتظاهر بالسعادة وفي داخلها سنوات من الحزن..، وبمرور السنين كان الإحساس بالوحدة والضياع يكبر مع الطفلة الغرّة حتى بلغت سن المراهقة وفي هذه المرحلة من حياتها فقدت والدها ليذهب في رحلته الأخيرة.. رحلة بلا عودة وفراق بالموت عقبه فراق في الحياة كان فراق شقيقتها التي خيرت بعد وفاة الاب الهجرة الى بلد أجنبي تاركة خلفها مروى المراهقة لتزيد كل تلك الأحداث المتتالية من معاناتها.

ظلت على تلك الحالة بضع سنوات وحين بلغت سن العشرين وضع القدر في طريقها أحمد..، كان بمثابة الأمل الذي يلوح من وسط العتمة..، أحمد اخترق حياة مروى ليصبح هو المحور ورأت فيه الشابة الحالمة العوض والسند والمستقبل السعيد ولكن معه عرفت أول "نفس" "زطلة"..، وبدأت مرحلة جديدة من حياتها و"نفس" يقود الى "نفس" وسيجارة تأخذها إلى سيجارة حتى..، أدمنت "الزطلة" وأدمنت معها حب فتاها..، وظلت على تلك الحالة لسنوات الى أن جاءت اللحظة الغادرة الفارقة..، اللحظة التي رماها فيها فتاها كما يرمي عقب سيجارته ثم رحل كما رحلت والدتها ثم والدها فشقيقتها.

برحيله عادت مروى لتنتكس من جديد فالرحيل والغدر والموت زادوا من أحزانها وحولوها الى شخص يبحث عن الغيبوبة..، يبحث عن عالم منشود بعد أن خذله العالم الموجود..، وعالم مروى المنشود كانت تسافر اليه من غير "فيزا" ولا "طائرة "ولا "باخرة"..، فقط سيجارة "زطلة" كانت كافية لتحلّق بها في عالم وردي وحتى إن كان ذلك لساعات..، مروى لم تجد صعوبة في الحصول على ضالتها فقد أصبحت "خبيرة" في معرفة المروجين فبمجرد أن تنظر في عينه تعرف مباشرة أنه "بائع الزطلة" حتى وإذ لم يضع لافتة..، هكذا وصفت مروى علاقتها بعالمها المنشود المتكون من المروّج والزطلة والعزلة.

ظلت مروى على ذلك الحال تسع سنوات..، وخلال السنوات التسع كانت تحاول هجر عالمها المنشود بكل ما فيه ولكنها لم تفلح فكلما تتذكر مراحل حياتها وما رافقها من حرمان وغدر وألم تهرول نحو مروج المخدرات وتدخن سيجارتها في شقتها التي ورثتها عن والدها في محاولة يائسة منها لنسيان الواقع.. ولكن وببلوغها سن الثامنة والعشرين أدركت أن "نفس" "الزطلة" الذي يحلّق بها الى عالمها المنشود لم يكن سوى مسكن وأن عليها أن تواجه الواقع بكل ما فيه من ألم وفقد وكانت في كل مرة تنقطع فيها عن المخدر تعود اليه من جديد حتى قررت تغيير حياتها وتوجهت نحو قسم "أمل" الذي سبق وأن قضت فيه ثلاثة أشهر وغادرته وهي معافاة تماما من السموم التي علقت بجسدها وحاولت طي صفحة الإدمان وبدأ حياة جديدة ولكن واقعها القاتم الذي كان يحاصرها من كل الجهات يجرها من جديد الى عالم المخدرات الى أن قررت قبل حوالي شهر العودة الى قسم "أمل"  وتلقي العلاج من جديد.

مروى قالت إنها لن تعود هذه المرة الى عالم الادمان ولن تقع فريسة المروجين الذين يصطادون أصحاب النفوس الضعيفة وسوف تتعالج وتشفى من المرض ثم تسافر الى بلد آخر وهناك تبدأ حياة جديدة.

ووجهت مروى في نهاية حديثها الينا رسالة الى الشباب والمراهقين بأن يحذروا الخطر الداهم من محيطات المدارس والمعاهد والجامعات..، خطر بائعي السموم الذين يتربصون بهم في كل ركن وهم مستعدون الى إهدائهم سيجارة واثنتان وحتى عشرة الى أن يدمن "الضحية" وعندها سيكون زبونهم الدائم وسيكونون مزوّديه الأوفياء يستنزفون أمواله وتستنزف سمومهم صحته الى أن ينتهي تماما.

مركب مغلق..

خلف أسوار المركّب الصحي بجبل الوسط وداخل قسم "أمل" للإنصات والوقاية والعلاج والتأهيل وإعادة إدماج المدمنين طوى العديد من المدمنين  صفحة الماضي واندمجوا في الحياة مرة أخرى بعد أن منحهم المركز فرصة جديدة عن طريق رحلة علاجية شاقة انتهت بانتصار العديد منهم على آفة المخدرات ولا يزال البعض الآخر يكابد ويصارع ليخرج من المركز منتصرا على تلك الآفة.

هذا المركب الذي ظل مغلقا لسنوات طويلة بعد الثورة وفتح من جديد أبوابه في 2019 بعد القيام بأشغال التهيئة التي أضفت روحا جديدة على المكان فتحوّلإلى منصة حيّة وتفاعلية للإنصات إلى السّاعين إلى العلاج من آفة الإدمان والي نافذة أمل تعدهم بغد أفضل وبأجساد سليمة خالية  من تلك المادّة السامّة التي ضربت جميع الفئات الاجتماعية على اختلاف مستوياتها الفكرية والثقافية والمالية والعمرية والجنسية، فكان قسم "أمل" بمثابة أوكسجين الحياة وطوق نجاة بالنسبة لهم لخلاصهم من الإدمان الذي تتنوع أشكاله لتشمل القنب الهندي والكوكايين والأقراص المخدرة بأنواعها وحتى مواد التخدير الطبية "البنج".

في هذا المركز استقبلنا الدكتور محمّد مقداد المدير العام للمركب الصحّي بجبل الوسط والذي بين أن المركّب تأسس في 2 نوفمبر 1998 وكان قسم "أمل" يتعهد في تلك الفترة بالمساجين الذين يكونون على مشارف إنهاء العقوبة السجنية إذ كان القسم يتعهد بهؤلاء إلى غاية 2011 وبعد هذا التاريخ غلق القسم أبوابه للقيام بأعمال تهيئة داخله ثم تم فتحه في افريل 2019 لكن بفلسفة جديدة كانت نتاج تعامل وتعاون وتبادل خبرات   مع خبراء بلجيكيين في مجال الاعتناء والتعهد بإعادة إدماج المدمن في الحياة العادية بمعنى أن القسم لم يعد يتعهد بالمساجين بل بالأشخاص الذين انقطعوا عن استهلاك المخدرات ويريدون العودة الى حياتهم الطبيعية. مضيفا أن المرضى يتمتعون بكافة الخدمات الموجودة بالمركب الصحي بجبل الوسط على غرار العلاج بالمياه المعدنية بالمحطة الإستشفائية بالمياه المعدنية بالمركّب. مشيرا إلى أن قسم "أمل" ينقسم الى أربع وحدات، وحدة للإدارة والتسجيل، وحدة العلاج بالعيادة الخارجية، وحدة الإقامة، وورشات التنشيط الثقافي، وملاعب للرياضة وفضاء للراحة والمطبخ.

وتابع بأن القسم يعاني من عجز هيكلي في الميزان المحاسبي ناتج أساسا عن عدم ملاءمة التعريفات المعمول بها والراجعة الى اتفاقيات لم يتم تحيينها منذ التسعينات بالرغم من تطور الأسعار والأجور والكلفة الحقيقية للخدمات مضيفا انه فضلا عن الصعوبات المالية هناك اشكال يتعلق بالجانب التشريعي اذ أن المشرّع لم يصنّف الإدمان كظاهرة مرضيّة يجب علاجها بل سعى الى تجريمه وهو ما نتج عنه أن الصندوق الوطني للتأمين على المرض لا يتكفّل بمصاريف علاج المدمنين وتحمل بذلك مصاريف العلاج على عاتق المدمن.

ضحايا الإدمان..

من جانبها أوضحت المختصة في علم النفس الكلينيكي والمعالجة النفسية   هيام بو كسّولة أنها تعمل بالعيادة الخارجية أين تستقبل المرضى من جميع الفئات أطباء، أساتذة، "بنكاجيّة"، رجال أعمال، فنانين، رياضيين، تلاميذ، طلبة وإعلاميون.. وغيرهم وتقوم بتشخيص حالتهم في مرحلة أولى ثم في مرحلة أخرى تقوم بمتابعتهم حتى يصلوا إلى ما يسمى بمرحلة "الفطام" بمعنى الانقطاع عن استهلاك المخدرات وإذا كان المريض يتطلب إيواءه بقسم "أمل" يتم إيواءه بالقسم وهناك يتلقى العلاج النفسي والطبي.

وأضافت أن قسم "أمل" لا يحبّذ إيواء المدمنين على استهلاك  "الأفيونات" على غرار أقراص "السوبيتاكس" و"الهيروين" لأنها مواد تتطلب حسب قولها عناية طبية خاصة بينما يتم ايواء مستهلكي القنب الهندي والكوكايين وعدة مواد أخرى على غرار الإكستازي.. موضحة أن البعض من المرضى لا يمكنهم الإقامة في القسم لعدة أسباب سواء لارتباطات مهنية أو دراسية أو بسبب ضعف إمكانياتهم المادية خاصة وان كلفة الإقامة لمدة شهر بقسم "أمل" تقدر بـ900 دينار لذلك ورغم أن القسم يستوعب 26 سريرا ولكن ثلاثة فقط يقيمون فيه حاليا.

200حالة إدمان سنويا..

وأوضحت محدثتنا أن العيادة الخارجية لمعالجة الإدمان بالمركب الصحّي بجبل الوسط تستقبل سنويا 200 حالة من كافة الفئات والأعمار، مشيرة  إلى أنه خلال 2020 استقبلت العيادة198 حالة وتضيف في نفس السياق أن القسم يعد الأول والوحيد في تونس لإيواء المدمنين الراغبين في إعادة إدماجهم في الحياة الاجتماعية ولكنه يعاني من نقص في الإمكانيات البشرية والمادية خاصة وأن المرضى يتطلبون مجهودات كبيرة لأن الادمان مرض "معقد" ومرحلة العلاج منه شاقّة وتتطلب جهدا وصبرا كبيرين سواء من المعالجين أو من المريض نفسه.

وفسّرت بأن أنواع المخدّرات المستهلكة تختلف من منطقة الى أخرى، فعلى سبيل المثال فإن أكبر نسبة مستهلكي أقراص "السوبيتاكس" نجدها  في العاصمة كذلك في منطقة الشمال خاصة منزل بورقيبة بينما نجد نسبة قليلة من مستهلكي تلك المادة في مدينة قفصة والنسبة الأكبر في تلك المنطقة  تستهلك "الهروين" أما في الأماكن الراقية بالعاصمة فإن أكبر نسبة من المستهلكين للهروين، الكوكايين والإكستازي نجدها في تلك المناطق، وفيما يتعلق بمخدر القنب الهندي قالت أن مستهلكيه في جميع الأماكن بتونس وأن أكبر نسبة تستهلك تلك المادة هم المراهقين.

دوافع الادمان..

وعن دوافع الإدمان عن المخدرات تقول المختصة في العلاج النفسي هيام بوكسّولة أن الأسباب عديدة ومتعددة أولا بسبب توفر المادة التي أصبحت تروج في العديد من الأماكن بتونس وبالتالي من السهل الحصول عليها، ثانيا وأن هناك من يستهلك في اطار خوض مغامرة كلها مخاطر ونتائج وخيمة والبعض الآخر تورط في ادمان المخدرات بسبب مروره بأزمة نفسية إما نتيجة خيانة زوجية أو بسبب ارتكابه حادث مرور فقد خلاله أحد أعضائه أو بسبب فشل في علاقة عاطفية، وهناك بعض الأشخاص الذين يعانون من مرض خبيث فيلجأون إلى استهلاك المخدرات  للتخفيف من الأوجاع والبعض الآخر بسبب دخوله في حالة من الاكتئاب على غرار مريض كانت باشرت علاجه تعرض إلى إصابة بآلة حادة بوجهه فخلفت له تشويها.. فالتجأ الى المخدرات لينسى آلمه النفسية.

وعن فترة العلاج المحددة لشفاء المريض من الإدمان قالت إن الإدمان مرض مزمن والعلاج منه يكون أولا بالتعويل على الذات ثم بوضع المريض نفسه في نمط عيش سليم والتكثيف من عوامل الحماية  والابتعاد عن عوامل الخطر.

ايواء 45 مريضا في الـ10 اشهر الأولى من 2021

وقالت محدثتنا إن العيادة الخارجيّة بالمركّب تستقبل نساء ورجالا وانه في 2020 تم إيواء 35 مريضا بقسم "أمل" وفي الفترة الممتدة من شهر جانفي إلى غاية شهر أكتوبر2021 قامت وزميلتها المختصة في طب الإدمان بـ739 جلسة علاجية أسفرت عن إيواء 45 مريضا بقسم "أمل"  وفي نفس الفترة استقبلت العيادة الخارجيّة 223 حالة من كافة الأعمار والفئات من بين تلك الحالات توجد ست نساء مشيرة إلى أنه خلال نفس الفترة من 2020 استقبل القسم 198 حالة.

 

صباح الشابي

"الصباح" في المركب الصحي بجبل الوسط: مركز "أمل" يفتح أمل المدمنين في النجاة من براثن المخدّرات

المدير العام للمركب الصحّي بجبل الوسط: المركز تم فتحه في أفريل 2019 بفلسفة جديدة

 

وفي هذا القسم الذي يأوي ثلاثة مرضى فقط و9 ممرضات وناظرة.. استقبلتنا مروى بابتسامة، وكانت معنوياتها مرتفعة والحماسة بادية على وجهها..، اقتربت منها وطلبت منها أن تتحدث لـ"الصباح" عن تجربتها.. لم تمانع على عكس الشابين الآخرين الموجودين معها بنفس المركز واللذين رفضا الحديث عن تجربتهما في عالم الإدمان..

مروى طلبت مني أن نبتعد قليلا عن المطبخ وقاعة الاستقبال فخرجنا من هناك وجلسنا في مكان منزو وهناك انطلقت في سرد مراحل حياتها بداية من طلاق والديها مرورا بما عاشته من فقد في طفولتها وصولا إلى مرحلة الإدمان..، تحدثت مروى كما لم تتحدث من قبل وكأنها كانت تنتظر من "تفضفض" إليه.

عن حياتها قالت إنها وعلى الرغم من أن والدها كان ميسور الحال وكان يملك عقارات بجهة الساحل ولكنها لم تكن طفلة محظوظة فسرعان ما انتهت طفولتها السعيدة وهي في سن السابعة حين انفصلا والداها لتتزوج والدتها من رجل آخر وتبني لها حياة جديدة لم يكن لمروى مكانا فيها وأما الأب فقد جدد حياته هو الآخر وارتبط بامرأة لم تحسن معاملتها..

تقول مروى وعلى الرغم من محاولات الأب تعويض فقدان حنان الأم حيث حاول لعب دور الأب والأم في آن واحد، ولكنه لم يفلح في اقتلاع الحزن من قلب طفلته الصغيرة التي كانت تتظاهر بالسعادة وفي داخلها سنوات من الحزن..، وبمرور السنين كان الإحساس بالوحدة والضياع يكبر مع الطفلة الغرّة حتى بلغت سن المراهقة وفي هذه المرحلة من حياتها فقدت والدها ليذهب في رحلته الأخيرة.. رحلة بلا عودة وفراق بالموت عقبه فراق في الحياة كان فراق شقيقتها التي خيرت بعد وفاة الاب الهجرة الى بلد أجنبي تاركة خلفها مروى المراهقة لتزيد كل تلك الأحداث المتتالية من معاناتها.

ظلت على تلك الحالة بضع سنوات وحين بلغت سن العشرين وضع القدر في طريقها أحمد..، كان بمثابة الأمل الذي يلوح من وسط العتمة..، أحمد اخترق حياة مروى ليصبح هو المحور ورأت فيه الشابة الحالمة العوض والسند والمستقبل السعيد ولكن معه عرفت أول "نفس" "زطلة"..، وبدأت مرحلة جديدة من حياتها و"نفس" يقود الى "نفس" وسيجارة تأخذها إلى سيجارة حتى..، أدمنت "الزطلة" وأدمنت معها حب فتاها..، وظلت على تلك الحالة لسنوات الى أن جاءت اللحظة الغادرة الفارقة..، اللحظة التي رماها فيها فتاها كما يرمي عقب سيجارته ثم رحل كما رحلت والدتها ثم والدها فشقيقتها.

برحيله عادت مروى لتنتكس من جديد فالرحيل والغدر والموت زادوا من أحزانها وحولوها الى شخص يبحث عن الغيبوبة..، يبحث عن عالم منشود بعد أن خذله العالم الموجود..، وعالم مروى المنشود كانت تسافر اليه من غير "فيزا" ولا "طائرة "ولا "باخرة"..، فقط سيجارة "زطلة" كانت كافية لتحلّق بها في عالم وردي وحتى إن كان ذلك لساعات..، مروى لم تجد صعوبة في الحصول على ضالتها فقد أصبحت "خبيرة" في معرفة المروجين فبمجرد أن تنظر في عينه تعرف مباشرة أنه "بائع الزطلة" حتى وإذ لم يضع لافتة..، هكذا وصفت مروى علاقتها بعالمها المنشود المتكون من المروّج والزطلة والعزلة.

ظلت مروى على ذلك الحال تسع سنوات..، وخلال السنوات التسع كانت تحاول هجر عالمها المنشود بكل ما فيه ولكنها لم تفلح فكلما تتذكر مراحل حياتها وما رافقها من حرمان وغدر وألم تهرول نحو مروج المخدرات وتدخن سيجارتها في شقتها التي ورثتها عن والدها في محاولة يائسة منها لنسيان الواقع.. ولكن وببلوغها سن الثامنة والعشرين أدركت أن "نفس" "الزطلة" الذي يحلّق بها الى عالمها المنشود لم يكن سوى مسكن وأن عليها أن تواجه الواقع بكل ما فيه من ألم وفقد وكانت في كل مرة تنقطع فيها عن المخدر تعود اليه من جديد حتى قررت تغيير حياتها وتوجهت نحو قسم "أمل" الذي سبق وأن قضت فيه ثلاثة أشهر وغادرته وهي معافاة تماما من السموم التي علقت بجسدها وحاولت طي صفحة الإدمان وبدأ حياة جديدة ولكن واقعها القاتم الذي كان يحاصرها من كل الجهات يجرها من جديد الى عالم المخدرات الى أن قررت قبل حوالي شهر العودة الى قسم "أمل"  وتلقي العلاج من جديد.

مروى قالت إنها لن تعود هذه المرة الى عالم الادمان ولن تقع فريسة المروجين الذين يصطادون أصحاب النفوس الضعيفة وسوف تتعالج وتشفى من المرض ثم تسافر الى بلد آخر وهناك تبدأ حياة جديدة.

ووجهت مروى في نهاية حديثها الينا رسالة الى الشباب والمراهقين بأن يحذروا الخطر الداهم من محيطات المدارس والمعاهد والجامعات..، خطر بائعي السموم الذين يتربصون بهم في كل ركن وهم مستعدون الى إهدائهم سيجارة واثنتان وحتى عشرة الى أن يدمن "الضحية" وعندها سيكون زبونهم الدائم وسيكونون مزوّديه الأوفياء يستنزفون أمواله وتستنزف سمومهم صحته الى أن ينتهي تماما.

مركب مغلق..

خلف أسوار المركّب الصحي بجبل الوسط وداخل قسم "أمل" للإنصات والوقاية والعلاج والتأهيل وإعادة إدماج المدمنين طوى العديد من المدمنين  صفحة الماضي واندمجوا في الحياة مرة أخرى بعد أن منحهم المركز فرصة جديدة عن طريق رحلة علاجية شاقة انتهت بانتصار العديد منهم على آفة المخدرات ولا يزال البعض الآخر يكابد ويصارع ليخرج من المركز منتصرا على تلك الآفة.

هذا المركب الذي ظل مغلقا لسنوات طويلة بعد الثورة وفتح من جديد أبوابه في 2019 بعد القيام بأشغال التهيئة التي أضفت روحا جديدة على المكان فتحوّلإلى منصة حيّة وتفاعلية للإنصات إلى السّاعين إلى العلاج من آفة الإدمان والي نافذة أمل تعدهم بغد أفضل وبأجساد سليمة خالية  من تلك المادّة السامّة التي ضربت جميع الفئات الاجتماعية على اختلاف مستوياتها الفكرية والثقافية والمالية والعمرية والجنسية، فكان قسم "أمل" بمثابة أوكسجين الحياة وطوق نجاة بالنسبة لهم لخلاصهم من الإدمان الذي تتنوع أشكاله لتشمل القنب الهندي والكوكايين والأقراص المخدرة بأنواعها وحتى مواد التخدير الطبية "البنج".

في هذا المركز استقبلنا الدكتور محمّد مقداد المدير العام للمركب الصحّي بجبل الوسط والذي بين أن المركّب تأسس في 2 نوفمبر 1998 وكان قسم "أمل" يتعهد في تلك الفترة بالمساجين الذين يكونون على مشارف إنهاء العقوبة السجنية إذ كان القسم يتعهد بهؤلاء إلى غاية 2011 وبعد هذا التاريخ غلق القسم أبوابه للقيام بأعمال تهيئة داخله ثم تم فتحه في افريل 2019 لكن بفلسفة جديدة كانت نتاج تعامل وتعاون وتبادل خبرات   مع خبراء بلجيكيين في مجال الاعتناء والتعهد بإعادة إدماج المدمن في الحياة العادية بمعنى أن القسم لم يعد يتعهد بالمساجين بل بالأشخاص الذين انقطعوا عن استهلاك المخدرات ويريدون العودة الى حياتهم الطبيعية. مضيفا أن المرضى يتمتعون بكافة الخدمات الموجودة بالمركب الصحي بجبل الوسط على غرار العلاج بالمياه المعدنية بالمحطة الإستشفائية بالمياه المعدنية بالمركّب. مشيرا إلى أن قسم "أمل" ينقسم الى أربع وحدات، وحدة للإدارة والتسجيل، وحدة العلاج بالعيادة الخارجية، وحدة الإقامة، وورشات التنشيط الثقافي، وملاعب للرياضة وفضاء للراحة والمطبخ.

وتابع بأن القسم يعاني من عجز هيكلي في الميزان المحاسبي ناتج أساسا عن عدم ملاءمة التعريفات المعمول بها والراجعة الى اتفاقيات لم يتم تحيينها منذ التسعينات بالرغم من تطور الأسعار والأجور والكلفة الحقيقية للخدمات مضيفا انه فضلا عن الصعوبات المالية هناك اشكال يتعلق بالجانب التشريعي اذ أن المشرّع لم يصنّف الإدمان كظاهرة مرضيّة يجب علاجها بل سعى الى تجريمه وهو ما نتج عنه أن الصندوق الوطني للتأمين على المرض لا يتكفّل بمصاريف علاج المدمنين وتحمل بذلك مصاريف العلاج على عاتق المدمن.

ضحايا الإدمان..

من جانبها أوضحت المختصة في علم النفس الكلينيكي والمعالجة النفسية   هيام بو كسّولة أنها تعمل بالعيادة الخارجية أين تستقبل المرضى من جميع الفئات أطباء، أساتذة، "بنكاجيّة"، رجال أعمال، فنانين، رياضيين، تلاميذ، طلبة وإعلاميون.. وغيرهم وتقوم بتشخيص حالتهم في مرحلة أولى ثم في مرحلة أخرى تقوم بمتابعتهم حتى يصلوا إلى ما يسمى بمرحلة "الفطام" بمعنى الانقطاع عن استهلاك المخدرات وإذا كان المريض يتطلب إيواءه بقسم "أمل" يتم إيواءه بالقسم وهناك يتلقى العلاج النفسي والطبي.

وأضافت أن قسم "أمل" لا يحبّذ إيواء المدمنين على استهلاك  "الأفيونات" على غرار أقراص "السوبيتاكس" و"الهيروين" لأنها مواد تتطلب حسب قولها عناية طبية خاصة بينما يتم ايواء مستهلكي القنب الهندي والكوكايين وعدة مواد أخرى على غرار الإكستازي.. موضحة أن البعض من المرضى لا يمكنهم الإقامة في القسم لعدة أسباب سواء لارتباطات مهنية أو دراسية أو بسبب ضعف إمكانياتهم المادية خاصة وان كلفة الإقامة لمدة شهر بقسم "أمل" تقدر بـ900 دينار لذلك ورغم أن القسم يستوعب 26 سريرا ولكن ثلاثة فقط يقيمون فيه حاليا.

200حالة إدمان سنويا..

وأوضحت محدثتنا أن العيادة الخارجية لمعالجة الإدمان بالمركب الصحّي بجبل الوسط تستقبل سنويا 200 حالة من كافة الفئات والأعمار، مشيرة  إلى أنه خلال 2020 استقبلت العيادة198 حالة وتضيف في نفس السياق أن القسم يعد الأول والوحيد في تونس لإيواء المدمنين الراغبين في إعادة إدماجهم في الحياة الاجتماعية ولكنه يعاني من نقص في الإمكانيات البشرية والمادية خاصة وأن المرضى يتطلبون مجهودات كبيرة لأن الادمان مرض "معقد" ومرحلة العلاج منه شاقّة وتتطلب جهدا وصبرا كبيرين سواء من المعالجين أو من المريض نفسه.

وفسّرت بأن أنواع المخدّرات المستهلكة تختلف من منطقة الى أخرى، فعلى سبيل المثال فإن أكبر نسبة مستهلكي أقراص "السوبيتاكس" نجدها  في العاصمة كذلك في منطقة الشمال خاصة منزل بورقيبة بينما نجد نسبة قليلة من مستهلكي تلك المادة في مدينة قفصة والنسبة الأكبر في تلك المنطقة  تستهلك "الهروين" أما في الأماكن الراقية بالعاصمة فإن أكبر نسبة من المستهلكين للهروين، الكوكايين والإكستازي نجدها في تلك المناطق، وفيما يتعلق بمخدر القنب الهندي قالت أن مستهلكيه في جميع الأماكن بتونس وأن أكبر نسبة تستهلك تلك المادة هم المراهقين.

دوافع الادمان..

وعن دوافع الإدمان عن المخدرات تقول المختصة في العلاج النفسي هيام بوكسّولة أن الأسباب عديدة ومتعددة أولا بسبب توفر المادة التي أصبحت تروج في العديد من الأماكن بتونس وبالتالي من السهل الحصول عليها، ثانيا وأن هناك من يستهلك في اطار خوض مغامرة كلها مخاطر ونتائج وخيمة والبعض الآخر تورط في ادمان المخدرات بسبب مروره بأزمة نفسية إما نتيجة خيانة زوجية أو بسبب ارتكابه حادث مرور فقد خلاله أحد أعضائه أو بسبب فشل في علاقة عاطفية، وهناك بعض الأشخاص الذين يعانون من مرض خبيث فيلجأون إلى استهلاك المخدرات  للتخفيف من الأوجاع والبعض الآخر بسبب دخوله في حالة من الاكتئاب على غرار مريض كانت باشرت علاجه تعرض إلى إصابة بآلة حادة بوجهه فخلفت له تشويها.. فالتجأ الى المخدرات لينسى آلمه النفسية.

وعن فترة العلاج المحددة لشفاء المريض من الإدمان قالت إن الإدمان مرض مزمن والعلاج منه يكون أولا بالتعويل على الذات ثم بوضع المريض نفسه في نمط عيش سليم والتكثيف من عوامل الحماية  والابتعاد عن عوامل الخطر.

ايواء 45 مريضا في الـ10 اشهر الأولى من 2021

وقالت محدثتنا إن العيادة الخارجيّة بالمركّب تستقبل نساء ورجالا وانه في 2020 تم إيواء 35 مريضا بقسم "أمل" وفي الفترة الممتدة من شهر جانفي إلى غاية شهر أكتوبر2021 قامت وزميلتها المختصة في طب الإدمان بـ739 جلسة علاجية أسفرت عن إيواء 45 مريضا بقسم "أمل"  وفي نفس الفترة استقبلت العيادة الخارجيّة 223 حالة من كافة الأعمار والفئات من بين تلك الحالات توجد ست نساء مشيرة إلى أنه خلال نفس الفترة من 2020 استقبل القسم 198 حالة.

 

صباح الشابي

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews