تونس – الصباح
هل تعيد رئاسة الجمهورية إعادة إحياء بعض المؤسسات والهياكل التي تم طمس معالمها بعد ثورة 2011 في سياق المساعي لوضع سياسة اتصالية وإعلامية جديدة ناجعة وهادفة في أبعادها إلى إخراج البلاد ومنظومة ما بعد 25 جويلية من شبه العزلة الخانقة التي أصبحت تعيشها اليوم على المستويين الداخلي والخارجي، خاصة بعد الإجماع على عمق الأزمة الاتصالية التي تتخبط فيها بلادنا في هذه المرحلة وبصفة أخص رئاسة الجمهورية؟
ومدعاة طرح هذه المسألة ليس من باب الافتراض والتمني وإنما كضرورة ملحة للخروج من الدائرة المغلقة التي تتخبط فيها مؤسسات الدولة اليوم وما يلفها من غموض وضبابية، وهو العامل الذي استغلته بعض الجهات السياسية والحزبية المعارضة لسياسية قيس سعيد وخياراته في إدارة الدولة منذ 25 جويلية إلى اليوم، وذلك بالمراهنة على "اللوبيينغ" الأجنبي وتوجيه ردود فعل بعض المنظمات والأنظمة الغربية والأمريكية وغيرها للتدخل في الشؤون الوطنية لعل أبرزها ما تم تداوله حول الشأن التونسي في اجتماع مجلس الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي أو الكونغرس الأمريكي مؤخرا، لاسيما في ظل ما تم الترويج له من قراءات موجهة خادمة للجهة المؤثرة والمحركة لمثل هذه المسائل على المستوى الدولي، مقابل الصمت المطبق لرئاسة الجمهورية إزاء ما يحصل ومواصلة انتهاج نفس سياسة الصمت واكتفاء سعيد بالرد عن طريق "الألغاز" ورمي الاتهامات في سياق المبني للمجهول من مناسبة لأخرى. وهي طريقة غير كافية وغير مقنعة وليست مجدية في الوضع الحالي الاستثنائي الذي تمر به البلاد،لأن الأمر والمرحلة تتطلب تجنيد "ماكينة" اتصالية وإعلامية قوية ديدنها الإقناع والوضوح وإيصال صورة تونس ومشروعها الجديد القائم على أنقاض ركام من الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمديونية الخارجية كحصيلة لسنوات الحكم خلال السنوات العشر الأخيرة، وهو ما يتنافى مع متطلبات الأنظمة الديمقراطية على غرار ما هو موجود في أغلب البلدان والأنظمة الديمقراطية في العالم.
وقد عاد الحديث مؤخرا في عديد المنابر ومختلف الأوساط إلى ضرورة إيلاء المسألة الاتصالية والإعلامية العمومية بالأساس، أهمية كبيرة في سياسة سعيد للمرحلة المقبلة على مستويات مختلفة خاصة أن أغلب المتابعين للمسألة من أهل الاختصاص يجمعون على أن الأزمة الاتصالية الحالية ليست مستجدة وإنما هي نتيجة للخيارات ما بعد 2011.
وسبق أن فسر الدبلوماسي السابق نجيب حشانة سبب تواتر التدخلات الأجنبية وتغيير لهجة بعض البلدان تجاه الوضع الحالي في تونس وفي مقدمتها موقف الولايات المتحدة الأمريكية إلى غياب آلية اتصال وإعلام واسعة ناجعة قادرة على توضيح الرؤية للشركاء الدوليين لتونس وإيصال الصورة الحقيقية في أبهى واجلى وضوحها حول التغييرات التي عرفتها بلادنا في إطار الاستجابة للمطالب الشعبية الواسعة بعد انسداد كل الآفاق ودرءا لانفجار اجتماعي خطير بعد عجز مؤسسات الدولة على القيام بدورها، وإيصال صورة الإجراءات الاستثنائية وتحديد نسق تفعيل المسار الجديد للدولة وذلك بأسلوب هادئ ورصين بعيدا عن التشنج والردود الانفعالية على نحو ما سقط فيه سعيد في تعاطيه مع بعض هذه المواقف على غرار وصفه مؤسسات التصنيف العالمية موديز "قبل إصدار التصنيف الجديد لتونس بـ"امك صنافة".
أخطاء جوهرية
في حديثه عن هذه المسألة أفاد صلاح الدين الدريدي المختص في الاتصال، بأن الأزمة الاتصالية لا يمكن فصلها عن الأزمة الإعلامية بالنسبة للمؤسسات العمومية ممثلة في مؤسسات الدولة الثلاث أي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ومجلس نواب الشعب خلال السنوات العشر الأخيرة باستثناء بعض المبادرات المتفردة، والأمر نفسه ينسحب على بقية الوزارات ومؤسسات الدولة.
واعتبر أن هذا الوضع هو نتيجة ثلاثة أخطاء جوهرية وفادحة ارتكبت بعد ثورة 2011 في علاقة بمسألة إعادة ترتيب المنظومة الإعلامية والاتصالية الجديدة، وكان لتداعيات هذه المقاربة المنقوصة الأثر السلبي الكبير على كل متعلقات الترويج لصورة تونس في الداخل والخارج. ويضع جانبا من الإشكاليات والأزمات التي تعد نتيجة لهذه الأخطاء وفي مقدمتها مسألة حذف أو غلق وزارة الإعلام والاتصال، والثانية حذف وكالة الاتصال الخارجي إضافة إلى إلغاء وجود كل مؤسسة رسمية تهتم بالإعلام، يأتي ذلك في الوقت الذي كان يفترض فيه التوجه، وعوض الحذف، إلى التفكير في ما يجب أن تكون عليه تلك المؤسسات في ظل نظام ديمقراطي لأن كل الأنظمة والمجتمعات الديمقراطية توجد بها وزارات إعلام ومؤسسات اتصالية كبرى وموسعة.
أما الخطأ الثالث الذي يعتبره الدريدي جوهريا ومصيريا في قطاع الاتصال والإعلام يتجسد في مستوى الاتصال العمومي وتحديدا في مستوى مجلس نواب الشعب ورئاستي الجمهورية والحكومة خلال سنوات ما بعد الثورة، موضحا أن مسألة الاتصال والإعلام لم يتم طرحها على مستوى الهيئات التي سعت إلى تحرير الإعلام منتقدا توجه "الهايكا" أو الهيئة المستقلة لإصلاح الإعلام والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين الرافض لكون المختصين بالاتصال أو الملحقين الإعلاميين في المؤسسات العمومية ليسوا صحفيين محترفين. لأنه يعتبر في التفرقة بين الإعلاميين والاتصاليين في هذا المستوى من العوامل التي أزمت الوضع خاصة في ظل عدم وجود أي هيئة أو هيكل يمكنه التدخل لتقديم تصور واضح يمكن أن يساهم في النهوض بالقطاع.
غياب الاتصال العمومي
في جانب آخر من تقييمه للوضع أفاد صلاح الدين الدريدي أنه منذ 2011 إلى اليوم كان الاتصال في البرلمان ورئاستي الجمهورية والحكومة غير موجود حسب المقاربة الحرفية والمقارنة المهنية وعلى ضوء الأهداف السياسية وفي متابعة الرأي العام والجدل الديمقراطي القائم. واستشهد على هشاشة هذه المنظومة ووضعها في تبعية مطلقة للأحزاب الحاكمة على غرار ما تم في قصر قرطاج أثناء حكم المرزوقي أو الراحل السبسي بعده وكذلك الشأن بالنسبة للوزارات بدليل أن بقاء الملحقين مرتبط بمدة بقاء الوزراء. ثم أن الملحقين في مجلس نواب الشعب كانوا ملحقين لرئيس البرلمان ويتعاملون بالمنطق السياسي وليس حسب المهنية التي تحتكم إلى المنطق الإخباري والترويج لما يستجد داخل هذه المؤسسة التشريعية.
وحمل الدريدي المسؤولية في استفحال هذه الأزمة اليوم إلى التغييب الممنهج الذي تم أتباعه خلال السنوات العشر الأخيرة.
ويذكر أنه منذ 2011 إلى غاية 25 جويلية الماضي لم يتم طرح مسألة إصلاح قطاع الإعلام أو المسألة الاتصالية على غرار ما هو معمول به في الأنظمة الديمقراطية، سواء تعلق الأمر بسن القوانين أو الإجراءات والأوامر المنظمة له في المؤسسة التشريعية، في حين أن نفس الفترة يعتبرها بعض رموزها من حزب حركة النهضة أنها فترة تحقيق المكسب الديمقراطي ويناشدون الداخل والخارج اليوم من أجل التدخل والتحرك لإنقاذه من خطر ديكتاتورية سعيد.
الاتصال الرئاسي وردة الفعل
في جانب آخر من حديثه عن نفس المسألة نزّل صلاح الدين الدريدي الأزمة الاتصالية لرئاسة الجمهورية في سياق ردة فعل هذه المؤسسة تجاه ما واجهته من عدائية من "ماكينة" الإعلام التي كانت تشتغل لفائدة رئاسة الحكومة والمنظومة الحاكمة بقيادة النهضة. لذلك اعتبر في اختياره عدم التواصل مع الإعلام الوطني في هذه المرحلة الاستثنائية ما يبرره خاصة أن هذا القطاع في مجمله لم يتعامل مع رئاسة الجمهورية بموضوعية في الخصومة القائمة مع خصومه السياسيين بل وصل الأمر إلى حد الاستهزاء من بعض مواقف وتصريحات قيس سعيد.
لكنه في المقابل يعتبر أنه من حق الرئاسة عدم حرمان المواطن من المعلومة والتعامل مع مؤسسات الإعلام الوطنية القائمة بمختلف أنواعها. واعتبر في غلق باب التواصل بين الطرفين سببا في السقوط في بعض المغالطات أو ملأ الفراغات التي تركتها الرئاسة باعتبار أن المواضيع الحارقة والراهنة التي تشغل الجميع مرتبطة بهذه المؤسسة والرئيس.
عودة الدولة
ودعا الدريدي سلطة الإشراف إلى العمل من أجل مراجعة مسألة التعاطي مع الإعلام والاتصال في أقرب الآجال، وذلك من خلال منح الدولة دورها الريادي في رسم المنظومة الإعلامية والاتصالية على نحو تكون متكاملة وشاملة بما يساهم في رفع كل الالتباسات الموجودة حول الوضع والأهداف المرسومة والخطوط العريضة للمشروع السياسي الجديد والترويج للصورة الحقيقية للوضع ولتونس الجديدة ورفع الإبهامات بما يقطع الطريق أمام محاولات التشويه والتشكيك والتعطيل.
ويعتبر محدثنا أن تبعات الوضع الاستثنائي في تونس ما بعد 25 جويلية بين قيمة وأهمية وكالة الاتصال الخارجي في تحقيق المعادلة المطلوبة في مستوى الاتصال الخارجي خاصة أمام نجاح بعض الجهات السياسية في تدويل القضية وشيطنة الشأن الوطني مقابل ما بدت عليه صورة تونس اليوم موقفها الرسمي من ضبابية وغموض يصل إلى حد "الضعف" في بعض الأحيان. من جانبه كان نجيب بن حشانة قد دعا سلطة الإشراف إلى الإسراع بتدارك العجز المسجل في مستوى التواصل وإيضاح الصورة والضعف في عدم القدرة على الإقناع وذلك عبر إعادة الاعتبار لآلية الإعلام الخارجي الفعال والناجز بشكل يتماشى ومتطلبات العصر والمرحلة على غرار ما هو معمول به في الأنظمة الديمقراطية.
نزيهة الغضباني