تونس- الصباح
تفاعلا مع تحولات المشهد السياسي في تونس على خلفية حراك 25 جويلة الذي قاده رئيس الجمهورية قيس سعيّد، وما انجرّ عنها من إجراءات وقرارات، أبدت واشنطن اهتماما خاصا للشأن التونسي، تجلى من خلال تعدد البيانات وتواتر الاتصالات وكثرة الزيارات الرسمية. فيما تميز موقفها الرسمي في تعاطيه مع التغييرات الحاصلة بالحذر لكنه في العمق كان مؤيدا لها ضمنيا مع بعض التحفظات بما يوحي بوجود علم مسبق للإدارة الأمريكية بما كان سيحدث، ويؤكد أن موقفها تحرّكه بالأساس حرصها على حماية مصالحها الإستراتيجية في تونس بشكل خاص والمنطقة المغاربية والإفريقية عموما قبل أي اعتبار آخر..
آخر تلك المواقف جاءت أول أمس حين عبرت الخارجية الأمريكية عن “قلقها وخيبة أملها” من التقارير التي قالت انها واردة من تونس عن تجاوزات طالت حرية الصحافة والتعبير ومن توظيف للمحاكم العسكرية للتحقيق في قضايا مدنية.
وقال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس في بيان صحفي صادر عنه نشرته سفارة الولايات المتحدة على صفحتها بموقع "فايسبوك": "ينتابنا قلق وخيبة أمل إزاء ما ورد من تونس في الآونة الأخيرة من تقارير عن تجاوزات طالت حرية الصحافة والتعبير ومن توظيف للمحاكم العسكرية للتحقيق في قضايا مدنية.”
وشدد برايس “على ضرورة أن تفي الحكومة التونسية بالتزاماتها باحترام حقوق الإنسان كما ينص على ذلك الدستور التونسي ويؤكده المرسوم الرئاسي عدد 117. وحث “الرئيس قيس سعيد ورئيسة الوزراء الجديدة على الاستجابة لما يدعو إليه الشعب التونسي من وضع خارطة طريق واضحة المعالم للعودة إلى عملية ديمقراطية شفافة تشمل المجتمع المدني والأطياف السياسية المتنوعة”.
الملاحظ أن بيان الخارجية الأمريكية يشير إلى الأمر 117 وكأنه أمر واقع ويتعامل معه على ذلك الأساس وبالتالي فهو اعتراف صريح بأن ما حصل يوم 25 جويلية لم يكن انقلابا على الدستور مثل ما رغب في ذلك معارضو الرئيس ومن يدعمهم من اللوبيات الحزبية والسياسية في الكونغرس الأمريكي..
ويأتي هذه الموقف الجديد من الخارجية الأمريكية في انسجام مع موقفها الصادر بتاريخ 24 سبتمبر الماضي حين أعربت فيه عن قلقها ”لاستمرار الإجراءات الانتقالية دونما نهاية واضحة حاثة الرئيس على صياغة خطة ذات جدول زمني واضح لعملية إصلاح شاملة للجميع تضمّ المجتمع المدني والأصوات السياسية المتنوعة".
وبربط مضمون البيان بتحركات بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي التي نجحت في تحديد جلسة استماع لمناقشة الوضع السياسي في تونس يوم 14 اكتوبر الجاري، يمكن قراءة جزء من فحوى البيان وكأنه موجها إلى الداخل الأمريكي بغاية التأكيد على أن إدارة بايدن وإن كانت لا تصف ما حدث في تونس بـ"الانقلاب الدستوري" إلا أنها تضغط من أجل أن تعمل السلطات التونسية على احترام مبادئ حقوق الإنسان والحريات، والإسراع بتشكيل حكومة والعمل على عودة سريعة للمسار الديمقراطي..
ولمزيد فهم الموقف الأمريكي إجمالا كان لا بد من العودة إلى البيانات الرسمية للخارجية الأمريكية وتصريحات المسؤولين الكبار في البيت الأبيض، ورسالة الرئيس الأمريكي بايدن إلى الرئيس سعيد، التي نقلها عنه وفدا رسميا ترأسه مساعد مستشارالأمن القومي الأمريكي جوناثان فاينر في 13 أوت الماضي. ثم وبدرجة أقل الزيارة التي اداها إلى تونس بتاريخ 4 سبتمبر عضوي الكونغرس الأمريكي السيناتور كريس ميرفي والسيناتور جون أوسوف اللذين زارا تونس مؤخرا والتقيا الرئيس سعيد بقصر قرطاج. وما تلا الزيارة من تفاعلات في تونس وأيضا في الولايات المتحدة على مستوى الطبقة السياسية وفي المشهد الإعلامي الأمريكي الذي بدا متناقضا مع موقف البيت الأبيض.
من الضبابية إلى التأييد الصريح لكن بتحفظ
الملفت للانتباه، أن الموقف الأمريكي تجاه ما يحدث في تونس وللوهلة الأولى،في انتقل من حالة الضبابية أو حالة اللاموقف في أول ردة فعل رسمية، بتاريخ 26 جويلية، حين قالت الخارجية الأمريكية بأنها تعمل على التثبت من أن حراك 25 جويلية وما تقرر فيها من إجراءات يمكن تصنيفها في خانة الانقلاب من عدمه، (وما يمكن أن يترتب عن ذلك من استتباعات سياسية واقتصادية تجاه تونس) لتأتي الإجابة بعد أيام قليلة، وينتقل الموقف إلى حالة المؤيد ضمنيا لحراك 25 جويلية مع بعض التحفظ في ما يتعلق بمسألة الحقوق والحريات والتأكيد على العودة السريعة للمسار الديمقراطي..
ثم وفي مرحلة لاحقة وبطريقة غير مباشرة تخلت الإدارة الأمريكية عن توصيف ما حصل في تونس بالانقلاب، رغم أن الموقف الرسمي من خلال تصريحات الناطق باسم إدارة بايدن غلب عليها الخطاب الدبلوماسي المحافظ واللغة الخشبية مع التركيز قد الإمكان مسائل أخرى مثل التشديد على ضرورة احترام "الحقوق والحريات" و"سيادة القانون" والعودة إلى "المسار الديمقراطي"، مع الضغط لتوضيح الرؤية بخصوص تسقيف الزمني للأحكام الاستثنائية التي أقرها سعيد، ثم التدرج إلى الدعوة الملحة إلى الإسراع بتشكيل حكومة.
بدت التصريحات الرسمية الأمريكية المتواترة تجاه تونس وكأنها تعطي تبريرات سياسية لما أقدم عليه سعيد من قرارات خاصة منها تعليق نشاط البرلمان واقالة رئيس الحكومة السابق. لكنها تعكس في نفس الوقت اهتماما أمريكيا متزايدا بما يجري من تحولات سياسية، ويركد مرة أخرى على أن هذا الاهتمام ليس إلا نتيجة للمصالح الاستراتيجية بعيدة المدى التي ترغب الويات المتحدة في حمايتها والدفاع عنها..
ففي غرة أوت الماضي، أكد جيك سوليفان مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي جو بايدن خلال اتصال مع الرئيس سعيد على دعم “الديمقراطية التونسية القائمة على الحقوق الأساسية والمؤسسات القوية والالتزام بسيادة القانون”، حسب بيان أصدره البيت الأبيض.
وأشار البيان إلى أن الاتصال “ركز على الحاجة الماسة للقادة التونسيين لرسم الخطوط العريضة لعودة سريعة إلى المسار الديمقراطي لتونس”.وأضاف أن “هذا يتطلب سرعة تشكيل حكومة جديدة برئاسة رئيس وزراء مؤهل من أجل تحقيق استقرار الاقتصاد التونسي والتعامل مع جائحة كوفيد-19”.
ووفق بيان البيت الأبيض، نقل سوليفان دعم الرئيس بايدن القوي للشعب وللديمقراطية التونسية القائمة على الحقوق الأساسية والمؤسسات القوية والالتزام بسيادة القانون.
وفي 14 سبتمبر المنقضي، أعرب مستشار وزارة الخارجية الأمريكية، ديريك شولات، خلال لقاء جمعه بوزير الشؤون الخارجية عثمان الجرندي، عن "دعم بلاده لتونس، لمواصلة الحفاظ على مكتسباتها الديمقراطية وأسس دولة القانون وقيم الحداثة التي تربط البلدين".وأبدى المسؤول الأمريكي، وفق بلاغ إعلامي لوزارة الخارجية، "استعداد واشنطن للعمل سويا مع تونس من أجل التصدي لمختلف التحديات، واستمرار التنسيق والتشاور مع القيادة التونسية في مختلف القضايا ذات الاهتمام المشترك".
تونس شريك استراتيجي للولايات المتحدة
في المحصّلة، لا يمكن فهم وقراءة الموقف الأمريكي مما يجري في تونس، إلا عبر الأخذ بالاعتبار عوامل موضوعية أساسية منها:
حرص إدارة بايدن على إرضاء الداخل الأمريكي وخاصة قوى التأثير السياسي والليبرالي واللوبيات الفاعلة، مثل تلك المقربة من الحزب الديمقراطي الحاكم. فحين تركز تصريحات الناطق باسم الخارجية الأمريكية على مسألة الحقوق والحريات فإن ذلك موجه على ما يبدو إلى الداخل الأمريكي، أكثر منه إلى الجانب التونسي، فإن ذلك لا يتعارض تماما ما يحصل.
فمثلا لم يصف بيان الخارجية الأمريكية يوم 26 جويلية ما قام به سعيد من قرارات بالانقلاب، كما اعترف لاحقا في آخر تصريح رسمي بالأمر الرئاسي عدد 117 المعلق بالأحكام الاستثنائية.
تعتبر تونس بالنسبة للولايات المتحدة شريكا استراتيجيا من الضروري الحفاظ معها بعلاقات قوية، حماية لمصالح الولايات المتحدة في الشمال الإفريقي، كمل تعتبر تونس بوابة أساسية للتعامل الأمريكي مع الشأن الليبي التي لا يمكن أن تعرف استقرارا أمنيا وسياسيا إلا مع استقرار تونس.
وتتميز الفترة التي وصل فيها سعيد إلى الحكم بعودة العلاقات الايجابية بين البلدين تُرجمت ميدانيا بتعزيز التعاون العسكري القائم منذ سنوات، وتضاعف المساعدات الاقتصادية الأمريكية لتونس.. وليس من مصلحة واشنطن الآن الوقوف ضد الرئيس سعيّد الذي بات يمسك بمقاليد الحكم وبجميع السلطات التشريعية والتنفيذية، وهو أيضا القائد الأعلى للمؤسسة العسكرية والأمنية..
وفي سياق متصل، يعكس إعلان الإدارة الأمريكية موافقتها الضمنية "المشروطة" لقرارات سعيد، حرص واشنطن مبدئيا على عودة الاستقرار السياسي في تونس قبل كل شيء خوفا من إمكانية حصول انفلات أمني وسياسي عنيف، وربما يفتح ذلك الباب أمام عودة عمليات إرهابية قد تهدد لا فقط الاستقرار الأمني والسياسي الهش في ليبيا لكن أيضا المصالح الأمريكية في المنطقة..
رفيق بن عبد الله