بالرغم من تعدد وجهات النظر بخصوص ما اتخذه رئيس الجمهورية من إجراءات في 25 جويلية، إلا أننا اليوم قد مررنا من مرحلة تأويل الدستور وتفكيك ما حدث إلى مرحلة التعامل مع الأمر الواقع. فنحن بالضرورة أمام واقع سياسي مغاير لا تقوده نفس المؤسسات استثنائيا بتجميد البرمان وإعفاء رئيس الحكومة، ولا نفس الشخصيات بإنهاء مهام عدد من مسؤولي الدولة وتعويضهم بقيادات من المفترض أنها ستنفذ رؤية الرئيس.
ولا شك أيضا أن الإجراءات التي قررها الرئيس أثرت بشكل مباشر في المشهد السياسي، حتى أنها أضعفت أحزابا و"أنهت" أحزابا أخرى من المشهد تماما، مثال ذلك قلب تونس. ولكن إلى حد الآن وفي وقت تتركز فيه كل السلطات في يده، لم يتجه الرئيس إلى اتخاذ إجراءات عملية من شأنها أن تعالج المشاكل الحقيقية للمواطنين.
فالتحولات التي بدأت منذ شهر غيرت الكثير أولا على مستوى المزاج العام، وثانيا على مستوى التموقع السياسي، وثالثا على مستوى علاقات تونس بالخارج، ولكنها لم تغير أي شيء من خطاب الرئيس وأفعاله التي بقيت على حالها. العبارات الرنانة، والتلاعب اللغوية وخاصة خطاب المؤامرة مازالت هي السائدة على أدائه، في وقت يحتاج فيه وضع البلاد وخاصة الاقتصادي منه الانتقال إلى الأفعال والإنجازات.
"لوبيات متنفذة"
بالنظر إلى القرارات التي اتخذها سعيد، فإنها تأتي في جوهرها من أجل وقف "المهزلة" السياسية في البرلمان وثانيا من أجل التصدي للوبيات والفاسدين، ولكن بالرغم من أن الرئيس انتقل من ملاحظ -يلقي الضوء بشكل متواصل على ما تخطط له "الأطراف" واللوبيات" و"الفاسدين" بوجود برلمان وحكومة وحياة سياسية إلى جانب صلاحيات الرئيس المحدودة- إلى الفاعل الرئيسي الذي هو على دراية كبيرة بما تخطط له هذه الأطراف، وهو المعني الوحيد بالتصدي لها عملا لا قولا.
ولكن هذا ليس ما يتجه له الرئيس، فعند استقباله أول أمس وزير التجارة وتنمية الصادرات محمد بوسعيد يصرح خلال اللقاء أن "هناك لوبيات تسعى بكل جهدها لتجويع الشعب التونسي والتنكيل به في قوته" وهذه المرة يتحدث عن أطراف سياسية تقف وراء الترفيع في الأسعار. يبدو لنا هنا التساؤل "لماذا لا يتصدى لها الرئيس وهو الذي بيده كل السلطات؟" منطقيا. كما أن كل ما قام به سعيد بخصوص الأسعار وهو أمر وإن حدث يبقى ظرفيا لا يأخذ بعين الاعتبار كل العوامل المساهمة في ارتفاعها، فإلى حد الآن يضع الرئيس إصبعه على المشاكل مثل غلاء المعيشة والاحتكار، ولكن لا يقدم حلولا عملية وواقعية لهذه المشاكل.
عند إشرافه على موكب التوقيع على اتفاقية توزيع مساعدات اجتماعية لفائدة العائلات الفقيرة ومحدودة الدخل التي تضررت من تداعيات جائحة كورونا، اعتمد سعيد نفس المعجم، وأكد أنه سيقف سدا منيعا أمام كل من يحاول ضرب الدولة التونسية ويفسر "لأن هذا هدفهم... الأموال كثيرة وموجودة ولكن للأسف التوزيع غير عادل.. يتحدثون على ملايين الدنانير في وسائل الإعلام ثمّ يقال إن تونس دولة فقيرة فكيف ذلك؟" وأضاف "تونس ثرية برجالها وأحرارها وحرائرها وليعلموا أن هناك من يعمل من أجل الوطن لا من أجل سيارة أو مسكن وظيفي كما يفعل البعض". هذا الحديث عن ثراء تونس، يتعارض مع كل المعطيات التي تعبر عن أزمة اقتصادية خانقة، ومديونية مرتفعة، ووكالات تصنيف تحذر من أن الضبابية وغياب وضوح الرؤية السياسية تؤثر بالضرورة في الوضع الاقتصادي التونسي.
وخلال الشهر الحالي صرح الرئيس أن هنالك "أطرافا متآمرة تسعى لتأليب الدول الأجنبية على رئيس الجمهورية". وهو نفس ما قاله في ديسمبر 2020، عندما تحدث أن "هناك محاولات من بعض الأطراف لضرب الدولة التونسية في وجودها وضرب مرافقها العمومية"، وذلك في لقاء مع رئيس الحكومة السابق هشام مشيشي. ولكن كما أشرنا هنالك اختلاف كبير بين ما كانت عليه سلطة الرئيس منذ أكثر من شهر وما هي عليه اليوم.
مسؤولية كاملة
الفرق بين ما قبل 25 جويلية وما بعده، هو أن الرئيس يتحمل اليوم المسؤولية كاملة، لأنه هو من يمثل السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، لأن كل العقبات التي كانت موجودة أمام تحقيق محاربة الفساد وتوفير حياة أفضل للمواطنين قد فككها، ولكن خطابه لم يتغير عما كان قبل هذه الفترة، فمرحلة وضع الإصبع على المشاكل يجب أن تعوضها مرحلة البحث في حلول هذه المشاكل ونجاعة هذه الحلول. كما أن نسق قرارات الرئيس بطيء، فمثلا يمر أسبوع اليوم عن تصريح الرئيس بخصوص "إعلان تركيبة الحكومة الجديدة في غضون أيام".
كل مكونات المشهد السياسي تغيرت في تونس بعد 25 جويلية، وكذلك الأمر على مستوى المزاج الشعبي الذي يتجه إلى دعم سعيد، ولكن ما لم يتغير هو رئيس الجمهورية في حد نفسه الذي لم يرتد قبعة الفاعل الحقيقي بعد، ولم يغير من خطابه الذي يقوم في مجمله على نظرية المؤامرة وتوجيه الاتهامات إلى جهات لا يسميها في أغلب الأحيان، في حين أنه أمام فرصة تاريخية لتحقيق تغيير فعلي وإيقاف هذه الأطراف واللوبيات وهؤلاء الفاسدين.
أروى الكعلي
تونس-الصباح
بالرغم من تعدد وجهات النظر بخصوص ما اتخذه رئيس الجمهورية من إجراءات في 25 جويلية، إلا أننا اليوم قد مررنا من مرحلة تأويل الدستور وتفكيك ما حدث إلى مرحلة التعامل مع الأمر الواقع. فنحن بالضرورة أمام واقع سياسي مغاير لا تقوده نفس المؤسسات استثنائيا بتجميد البرمان وإعفاء رئيس الحكومة، ولا نفس الشخصيات بإنهاء مهام عدد من مسؤولي الدولة وتعويضهم بقيادات من المفترض أنها ستنفذ رؤية الرئيس.
ولا شك أيضا أن الإجراءات التي قررها الرئيس أثرت بشكل مباشر في المشهد السياسي، حتى أنها أضعفت أحزابا و"أنهت" أحزابا أخرى من المشهد تماما، مثال ذلك قلب تونس. ولكن إلى حد الآن وفي وقت تتركز فيه كل السلطات في يده، لم يتجه الرئيس إلى اتخاذ إجراءات عملية من شأنها أن تعالج المشاكل الحقيقية للمواطنين.
فالتحولات التي بدأت منذ شهر غيرت الكثير أولا على مستوى المزاج العام، وثانيا على مستوى التموقع السياسي، وثالثا على مستوى علاقات تونس بالخارج، ولكنها لم تغير أي شيء من خطاب الرئيس وأفعاله التي بقيت على حالها. العبارات الرنانة، والتلاعب اللغوية وخاصة خطاب المؤامرة مازالت هي السائدة على أدائه، في وقت يحتاج فيه وضع البلاد وخاصة الاقتصادي منه الانتقال إلى الأفعال والإنجازات.
"لوبيات متنفذة"
بالنظر إلى القرارات التي اتخذها سعيد، فإنها تأتي في جوهرها من أجل وقف "المهزلة" السياسية في البرلمان وثانيا من أجل التصدي للوبيات والفاسدين، ولكن بالرغم من أن الرئيس انتقل من ملاحظ -يلقي الضوء بشكل متواصل على ما تخطط له "الأطراف" واللوبيات" و"الفاسدين" بوجود برلمان وحكومة وحياة سياسية إلى جانب صلاحيات الرئيس المحدودة- إلى الفاعل الرئيسي الذي هو على دراية كبيرة بما تخطط له هذه الأطراف، وهو المعني الوحيد بالتصدي لها عملا لا قولا.
ولكن هذا ليس ما يتجه له الرئيس، فعند استقباله أول أمس وزير التجارة وتنمية الصادرات محمد بوسعيد يصرح خلال اللقاء أن "هناك لوبيات تسعى بكل جهدها لتجويع الشعب التونسي والتنكيل به في قوته" وهذه المرة يتحدث عن أطراف سياسية تقف وراء الترفيع في الأسعار. يبدو لنا هنا التساؤل "لماذا لا يتصدى لها الرئيس وهو الذي بيده كل السلطات؟" منطقيا. كما أن كل ما قام به سعيد بخصوص الأسعار وهو أمر وإن حدث يبقى ظرفيا لا يأخذ بعين الاعتبار كل العوامل المساهمة في ارتفاعها، فإلى حد الآن يضع الرئيس إصبعه على المشاكل مثل غلاء المعيشة والاحتكار، ولكن لا يقدم حلولا عملية وواقعية لهذه المشاكل.
عند إشرافه على موكب التوقيع على اتفاقية توزيع مساعدات اجتماعية لفائدة العائلات الفقيرة ومحدودة الدخل التي تضررت من تداعيات جائحة كورونا، اعتمد سعيد نفس المعجم، وأكد أنه سيقف سدا منيعا أمام كل من يحاول ضرب الدولة التونسية ويفسر "لأن هذا هدفهم... الأموال كثيرة وموجودة ولكن للأسف التوزيع غير عادل.. يتحدثون على ملايين الدنانير في وسائل الإعلام ثمّ يقال إن تونس دولة فقيرة فكيف ذلك؟" وأضاف "تونس ثرية برجالها وأحرارها وحرائرها وليعلموا أن هناك من يعمل من أجل الوطن لا من أجل سيارة أو مسكن وظيفي كما يفعل البعض". هذا الحديث عن ثراء تونس، يتعارض مع كل المعطيات التي تعبر عن أزمة اقتصادية خانقة، ومديونية مرتفعة، ووكالات تصنيف تحذر من أن الضبابية وغياب وضوح الرؤية السياسية تؤثر بالضرورة في الوضع الاقتصادي التونسي.
وخلال الشهر الحالي صرح الرئيس أن هنالك "أطرافا متآمرة تسعى لتأليب الدول الأجنبية على رئيس الجمهورية". وهو نفس ما قاله في ديسمبر 2020، عندما تحدث أن "هناك محاولات من بعض الأطراف لضرب الدولة التونسية في وجودها وضرب مرافقها العمومية"، وذلك في لقاء مع رئيس الحكومة السابق هشام مشيشي. ولكن كما أشرنا هنالك اختلاف كبير بين ما كانت عليه سلطة الرئيس منذ أكثر من شهر وما هي عليه اليوم.
مسؤولية كاملة
الفرق بين ما قبل 25 جويلية وما بعده، هو أن الرئيس يتحمل اليوم المسؤولية كاملة، لأنه هو من يمثل السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، لأن كل العقبات التي كانت موجودة أمام تحقيق محاربة الفساد وتوفير حياة أفضل للمواطنين قد فككها، ولكن خطابه لم يتغير عما كان قبل هذه الفترة، فمرحلة وضع الإصبع على المشاكل يجب أن تعوضها مرحلة البحث في حلول هذه المشاكل ونجاعة هذه الحلول. كما أن نسق قرارات الرئيس بطيء، فمثلا يمر أسبوع اليوم عن تصريح الرئيس بخصوص "إعلان تركيبة الحكومة الجديدة في غضون أيام".
كل مكونات المشهد السياسي تغيرت في تونس بعد 25 جويلية، وكذلك الأمر على مستوى المزاج الشعبي الذي يتجه إلى دعم سعيد، ولكن ما لم يتغير هو رئيس الجمهورية في حد نفسه الذي لم يرتد قبعة الفاعل الحقيقي بعد، ولم يغير من خطابه الذي يقوم في مجمله على نظرية المؤامرة وتوجيه الاتهامات إلى جهات لا يسميها في أغلب الأحيان، في حين أنه أمام فرصة تاريخية لتحقيق تغيير فعلي وإيقاف هذه الأطراف واللوبيات وهؤلاء الفاسدين.