تونس- الصباح
طبعا لقد علمتنا الازمات المتعاقبة في العالم الثالث انه لا بواكي للمستضعفين والمهمشين ،وان أطفال العامرية واطفال غزة واطفال البوسنة واطفال اليمن وسوريا وغيرهم ليسوا كاطفال اوكرانيا الذين يهددهم بوتين باللجوء ، وليس في هذه المقدمة ما يعني أن ما اقدم عليه بوتين مبرر ولكن الاكيد ان في تعاطي المجتمع الدولي مع حق الامم والشعوب في الامان والاستقرار يخضع لسياسة المكيالين وما هو مكفول ومضمون للبيض والمتحضرين غير ممكن لغيرهم من اصحاب البشرة الداكنة والسمراء واصحاب الهويات الافريقية والشرق اوسطية فهؤلاء غير متحضرين ولا نعرف ما هي حدود مصطلح العالم المتحضر وغير المتحضر او كيف تقبل حقوق البشر في الحياة ان تخضع للمزايدات وان تمنح لشعب دون آخر ...
كما أن لكل الحروب سواء كانت خاطفة او طويلة ضحاياها وهم غالبا من المدنيين الذين يدفعون ثمن اخطاء وجشع وصراعات السياسيين والعسكريين ، فان لكل الحروب العسكرية الميدانية وجه آخر يتمثل في الحرب الاعلامية التي ترافق المعارك في مختلف تطوراتها والتي غالبا ما يستند اليها المؤرخون والباحثون والدارسون لتدوين الاحداث وتسجيلها وقد تكون تلك الاحداث لكشف الحقائق التاريخية او كذلك لتزويرها وتزييفها ، والحقيقة أن احدث هذه الحروب التي تسجل اليوم بين روسيا وبين اوكرانيا وحلفائها في الغرب والتي يتابع العالم تطوراتها لم تخرج عن هذه الدائرة .
-سقوط القناع
وقد اسقطت هذه الحرب القناع عن الوجه الحقيقي للاعلام في الغرب وفرضت هذه الحرب التي تدخل يومها الخامس جملة من نقاط الاستفهام حول موضوعية ومصداقية الحرب الاعلامية المرافقة لها ، ندرك جيدا أنه لا مكان للاخلاق والقيم في لعبة المصالح والحروب وأن ما فرضته اتفاقيات جنيف الرابعة في هذا الصدد بشأن احترام حقوق الاسرى وضمان حماية المدنيين وسيارات الاسعاف ليست سوى تجميلا لواقع قبيح وفظيع بعد فشل الخيارات الديبلوماسية والانسياق وراء التصعيد ولعبة السلاح ومع ذلك فان في التعاطي الاعلامي لفئة من الاعلاميين ولا نقول كل الاعلاميين في الغرب مع هذه الحرب يؤكد ازدواجية المعايير في التعاطي الاعلامي للغرب مع هذه الحرب .
طبعا لسنا في اطار استعراض لمبرارات هذه الحرب التي لجأ اليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ، وسواء كان الدب الروسي يحلم باستعادة امجاد الاتحاد السوفياتي الذي تفكك او سواء كان يبحث عن ضمان امنه القومي والتصدي لتهديدات الحلف الاطلسي على ابوابه عبر بوابة اوكرانيا أو سواء ايضا وقع في فخ الناتو ووقع على سقوطه في مستنقع اوكرانيا الذي سيمنح الغرب كل الاسباب لمحاصرته وخنقه اقتصاديا قبل تركيعه لإحقا فان الواضح حتى الان ان اللعبة الاعلامية المرافقة لهذه الحرب اسقطت الكثير من الاقنعة التي طالما روجت لحياد واستقلالية السلطة الرابعة في التعاطي مع الاحداث .
لا خلاف أنه لا حياد مع القضايا السيادية للاوطان ولا مكان للحياد في التعاطي مع قضايا الارهاب الا ان ما أقدم عليه عدد من المراسلين الاوروبيين والامريكيين على قنوات يفترض انها تحترم الحد الادنى من اخلاقيات المهنة مثير للاشمئزاز ليس لانهم اعلنوا العداء للدور الروسي فهذا من حقهم وليس لانهم نقلوا ما يحدث على الارض من معارك فهذا ايضا من حقهم حتى وان لم يكن نقل الحقائق متكاملا ولكن لاسباب تتعلق بتجاهل واسقاط القيم الانسانية التي يدعي الغرب تبنيها والدفاع عنها والتي تنتصر للمساواة بين البشر.ولاشك انه عندما يخاطب مراسل قناة سي بي اس المشاهدين بخطاب يشدد على ان ما يحدث في اوكرانيا يتعلق بمواطنين ينتمون لعالم متحضر وليسوا مثل اللاجئين في شمال افريقيا وفي العراق وافغانستان فان في ذلك توجه عنصري مفضوح وبغيض، وعندما تصرخ مراسلة مخاطبة العالم الحر بان ما يحدث في دولة من القرن الواحد والعشرين وليست العراق او افغانستان فان في ذلك ايضا نظرة متعالية تنم عن سقوط اخلاقي بلا حدود وانه عندما يقول مراسل صحفي مخاطبا مواطنيه "انظروا الى لباسهم وسياراتهم انهم مثلنا مثل أي عائلة اوروبية فان في ذلك ايضا دعوة صريحة لتبرير قتل الافارقة واصحاب البشرة الداكنة ممن يختلفون عن الاوروبيين البيض وعندما تصرخ مراسلة شابة مخاطبة العالم "نعم لقد حصل ما لم يكن احد يتوقعه هذا ليس بلد من بلدان العالم الثالث هذه اوروبا " فان ترجمة كلامها يعني ليس مهما ان يموت الافارقة وليس مهما ان يموت العراقي واليمني والليبي والصومالي والسوري فحياة هؤلاء لا تساوي شيئا امام حياة الاوروبيين وفي ذلك اخطر رسالة يمكن ان يمارسها الاعلام وهي ربما تتجاوز خطرالحرب ذاتها لان فيها عقلية عنصرية لها تداعياتها على العلاقات بين الشعوب في العالم ..
وحتى نكون اكثر دقة وننسب ما لقيصر لقيصر فالكلام صدر عن تشارلي داغاتا مراسل "سي بي اس" مكتب لندن والذي قال "لا تتوقع أن ترى في أوكرانيا نوع الصراع العسكري الذي ابتُلي به الشرق الأوسط." متحضرة وأوربية نسبيًا مقارنة بدول مثل العراق وأفغانستان. وأضاف: "هذا ليس مكانًا - مع كل الاحترام الواجب - مثل العراق أو أفغانستان، حيث يدور صراع محتدم منذ عقود، هذه مدينة حضارية وأوربية نسبيًا."
-اعتذار ولكن
صحيح ان المراسل عاد واعتذر بعد حملة استنكار واسعة عبر المواقع الاجتماعية قائلًا: "لقد تحدثت بطريقة آسف لقولها،" مضيفًا أنه كان يحاول إيصال أن أوكرانيا لم تشهد "هذا الحجم من الحرب" في السنوات الأخيرة، على عكس البلدان الأخرى ولكن في موقفه ما يعكس الكثير عن نظرة الغرب واعلام الغرب عندما يتعلق الامر بدول العالم الثالث ، اما زميلته كيلي سوبيلا مراسلة" ان بي سي " فقالت مخاطبة الملايين في العالم "هؤلاء ليسوا لاجئين عراقيين أو سوريين ، وأضافت: "هؤلاء لاجئين من الجارة أوكرانيا وهذا بصراحة سبب استقبالهم في بولندا هم مسيحيون وبيض ويشبهون سكان بولندا بشكل كبير."..الى جانب ذلك فقد نقلت بعض الصور التي لم ينتبه لها أصحاب القنوات الغربية كيف منع شبان افارقة من امتطاء القطار وهم يحاولون الهروب من الجحيم ،وكيف تم انزال اخرين من العربات وابعادهم لا لشيء الا لان بشرتهم داكنة ومختلفة ..نعم لكل الحروب ضحاياها وبين الضحايا الحقيقة التي قد تضيع في محاولات تزوير التاريخ وتزييفه استباقا لمحطات قادمة يدركها جيدا المتوثبون الذين يتقنون قراءة الاحداث واستباقها خلال وبعد كل الصراعات والحروب التي يتحول فيها المدنيون من نساء واطفال ولاجئين الى وقود ا في قبضة معركة خطط لها الحكام المتناحرون لاعادة رسم الحدود او اعادة فرض المصالح الاستراتيجية فرضت عليهم ولم يكن لهم فيها رأي او دور لكل حرب وسائلها الدعائية في التاثير على الراي العام والتاثير على صناعة القرار التي قد تختلف من زمن الى اخر باختلاف وتطور الالة الدعائية واللوبيات المتداخلة والمتحكمة في الاعلام
-منع وسائل الاعلام الروسية
وفي مسارالحرب الاعلامية ايضا فقد اعلنت ارسولا فون دير المفوضية الاوروبية منع بث كل من قناة "روسيا اليوم و" سبوتنيك "معتبرة ان الاتحاد الاوروبي لن يسمح للالة الدعائية للكرملين بنشر الانقسامات داخل الاتحاد
وأن هدف التحالف الأوروبي لا يسمح بنشر معلومات تقوض مهمته .
صحيفة تلغراف البريطانية لم تتخلف عن المعركة حيث نشرت مقالا يذكر صاحبه "انهم يبدون مثلنا اوكرانيا بلد اوروبي يشاهد مواطنوها نتفليكس ولديهم حسابات انستغرام ويصوتون في انتخابات حرة..
بعض السياسيين انساقوا في غمرة حماستهم الى المعركة العنصرية وربما يكون من المهم مستقبلا رصدها وتقديمها للمقارنة .
ليست هذه اول مرة التي تتداخل فيها المعارك العسكرية بالمعارك الاعلامية الحربية ، وقد ادركت الولايات المتحدة الأمريكية أهمية الإعلام او السلطة الرابعة في المعارك السياسية والاقتصادية ولعل اخطرها كان خلال الحرب على العراق ومارافقها انذاك من تحكم في المشهد الاعلامي في تلك الحرب ، بل انه ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية كان سلاح الاعلام وازنا وحاسما واستراتيجياً في تحديد مسار الحروب ، ودور الإعلام في الحرب يكون في نقل ما يحدث على مستوى جبهة القتال في مرحلة اولى والتاثير على الرأي العام وكسب عقول البشر وقلوبهم من خلال الدعاية والحرب النفسية في مرحلة ثانية ..
في الحرب العالمية الثانية كان للراديو دور فاعل ومؤثر كوسيلة دعائية وفي حرب فيتنام كانت تجسيداً مهماً لدور التلفزيون، أما حرب الخليج الثانية فقد تزامنت مع بداية الفضائيات التلفزيونية التي تمثلت في شبكة "سي إن إن "ثم جاءت الحرب على أفغانستان لتصنع الشهرة الدولية لقناة الجزيرة..
لا احد بامكانه ان ينكر وزن وقيمة الاعلام الامريكي والاوروبي في تحويل الانظار وتوجيه اهتمامات الراي العام الدولي الى صور الدبابات الروسية المدمرة على الطرقات بعد ان كان الاهتمام مسلطا على المخاطر الامنية التي دفعت بوتين الى هذه الحرب ...نعم اخطا بوتين عندما لوح بوضع قوة الردع النووي للجيش الروسي في حالى تاهب قصوى فقد حكم على نفسه بذلك ان يخرج من دائرة الدفاع عن الامن القومي الروسي الى دائرة الخطر الداهم لامن وسلامة واستقرار اوروبا ..
اسيا العتروس