علي عبد اللطيف اللافي – كاتب ومحلل سياسي مختص في الشؤون الافريقية
سلسة الانقلابات العسكرية والتقلبات الدراماتيكية في المشهد السياسي السوداني متواصلة، وذلك أمر بَيّن وجليّ، ولكن نجاح أربع فقط من بين 12 انقلابا خلال خمس عقود يدفع الى البحث عن حقيقة ما جَرى ويَجري، فما هي قصة الانقلاب الأخير وما علاقته بالمحاولة الانقلابية التي جرت في 21 سبتمبر الماضي وبالاجتماعات الماراطونية التي تمت قبل 25 أكتوبر الحالي، وأي علاقة لكل ذلك بسياقات الجدل الذي تم ما قبل سقوط البشير وبحراك مَا بعد سقوطه؟
الأسابيع الماضية التي قادت إلى انقلاب 25 أكتوبر الجاري، كانت حافلة بالتوترات بين القيادتين العسكرية والمدنية اللتين كانتا تتنازعان للسيطرة على البلاد مع اقتراب موعد تسليم العسكر السلطة للمدنيين، والواقع أن عقلية التجاذب وذهنية الانقلاب كانتا سائدتين وسط مزاج عام ساد منذ الإطاحة بنظام "عمر البشير" منذ حوالي ثلاث سنوات، وهو مزاج تحول فعليا إلى احتجاجات متفرقة ومحاولة انقلابية فاشلة الشهر الماضي (تحديدا في 21-09-2021) والتي يعتقد البعض انها كانت محاولة تكتيكية لتبرير الانقلاب الحالي، ومن ثم تم بشكل مستمر وشبه يومي تبادل الاتهامات بخيانة مبادئ الثورة حيث أكد المدنيون على ضرورة خروج العسكر من السلطة بحلول 17 نوفمبر وهو الموعد الذي كان سينهي الفترة الانتقالية، وهي المرة الأولى التي كان سيتولى فيها المدنيون الحكم منذ 3 عقود أو يزيد...
السودان واجه منذ سنوات مشاكل تضخم ونقص في المواد الغذائية ولكن الوضع تعفن أكثر خلال الأسابيع الماضية وهنا اتهم "حمدوك" بدور الجيش بإثارة الاحتجاجات مع اقتراب موعد تسليم السلطة، ولكن الجيش كانت ولا تزال لديه مخاوف كبيرة من وقف نشاطه في مجال صناعة الذهب (ذلك أن القوات المسلحة تلعب دورا مهما في صناعة التنقيب عن الذهب وتقوم بتصديره إلى دبي)...
قبل 25 أكتوبر الجاري كان هناك تراكم كمي لدرجات الريبة بين المدنيين والعسكريين، كما أن الطرف الثاني – اي العسكريين كان لهم ريبة في أنهم قد يُوضعون في الرف والحقيقة أن هناك تنافسا طويلا بينهما بل بين العديد من اللاعبين، وهو تنافس وصل ذروته في الأسابيع والأشهر الماضية والذي توج المحاولة الانقلابية في 21 سبتمبر الماضي كتعبير فعلي عن تنازع المصالح بين الجيش ودعاة الديمقراطية وكل ارسل انصاره للتظاهر في الشوارع وكل له وجهة نظر وترتيب مستقبلي لدوره وعلاقته مع الشريك الثاني، وقد بلغ التعقيد ذروته في الطريقة التي حاول فيها كل حزب أو طرف في العملية الانتقالية توسيع أو الحفاظ على قاعدة السلطة التي حصل عليها حيث تم رفض المحاولات المتكررة لدمج قوات الدعم السريع المتهمة بجرائم في دارفور بالجيش من قبل قائدها "محمد حمدان دقلو" (المعروف باسم "حميدتي")، ومعلوم أن رئيس الوزراء "حمدوك" قد أكد في فيفري الماضي إن الانشقاق داخل الجماعات السياسية التي تشارك في عملية التحول الديمقراطي سيؤدي إلى الفوضى والحرب الأهلية.
السودان لم ولن يكون بلدا عاديا في معادلات صراع النفوذ على القارة الافريقية وسواحله استراتيجية في رسم ملامح التواجد والمرور للعمق الافريقي وهو تحول ومنذ بداية العقد الحالي الى ساحة صراع بالوكالة بين أطراف بل بين أذرع اقليمية خادمة لقوى دولية لها حساباتها الدقيقة وخاصة الروس والأمريكيين والصينيين وكل له مراميه وحساباته التكتيكية والإستراتجية ولكن ذلك لا يَنفي توفر وكلاء محليين سودانيين من ذوي ضيقي الأفق الاستراتيجي فيلعبون أدوارا بالوكالة لتلك الاطراف والأذرع سواء كانت اقليمية أو دولية، حتى أن "تيودر ميرفي" (مدير برنامج إفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية)، أكد في تصريحات صحفية له، أن الجيش تحرك خوفا من إضعافه وأن تحركه حُظي بدعم من دول خارجية، بل وأضاف "هناك تقارير موثوقة بأن "مصر" و"الإمارات العربية المتحدة" دعمتا توجه القوات السودانية المسلحة..."
المكونات السياسية والاجتماعية توجد في كل مربع وهي مُتعددة ومتشابكة ضمن مربعاتها وعبر خيوط دقيقة مع مربعات أخرى، وهنا لا يُمكن الجزم أو القول أن هذا الطرف الإقليمي أو ذاك يُمكن أن يدعم ويدفع في أي اتجاه وللمسك بكل الخيوط يتطلب الأمر اختراق كل المكونات ومن ثم تقدير الآلية التي تمكن من التحكم في تلك اللحظة الزمنية بالذات نتاج التقلب في الولاءات والتحالفات كلما تطورت الأوضاع سواء في السودان او في أي من دول الإقليم والسودان لم ولن يستطيع التخلي عن الدعم الأممي والدولي، لأن ذلك الدعم ليس اقتصاديا وماليا فحسب، حتى أن جهود الأمم المتحدة التي تشارك في عملية دعم التحول الديمقراطي تساعد السلطة على مجابهة الانفلاتات المتوقعة في أقاليم الهامش حال اتسع نطاق العصيان المدني ووقع المزيد من العنف والفوضى، وأن النظام الموجود على رأس سدّة الحكم سيكون بحاجة إلى دعم يساعده على تقويض حدّة الانفلات، وهو ما يعني ان حقيقة المواقف الدولية تحتاج الى تفصيلات وتدقيق وتعمق كبير في الجزئيات...
بالتراجعات التي أقدم عليها "البُرهان"(قائد الجيش وقائد الانقلاب الاخير)، يكون قد ألقى بما يمكن وصفه بـ"الطُعم" للقوى السياسية غير المتوافقة مع تحالف الحرية والتغيير، والمناوئة بشكل كامل للتعاون مع المكوّن العسكري، وأتاح الفرصة أمامها للمشاركة في هياكل السلطة الانتقالية دون أن يُوضح ماهية تلك القوى التي ينوي التنسيق معها، ويمكن تحديد تلك الاحزاب التي ينوي الجيش التعاون معها هي ذاتها التي شكلت القاعدة العريضة لـ"اعتصام القصر"، إلى جانب عدد من الأحزاب المتحالفة مع حزب المؤتمر الوطني المنحل، وأطياف واسعة من القبائل والمكونات الصوفية والدينية التي تتماهى مع الأنظمة الموجودة على رأس السلطة مهما كانت توجّهاتها...
لا شك في أن ردّة الفعل القوية على مستوى الشارع ودخول الخرطوم وبعض المدن الأخرى في عصيان شامل، وحالة الذعر التي أصابت المواطنين بعد أن ذكّرتهم خطوات الجيش بانقلابات سابقة انعكست سلبا على الأوضاع طيلة العقود الماضية، والرفض الدولي الواسع والحديث الأمريكي عن تعليق المساعدات، كلها دفعت إلى تهدئة لهجة الجيش التي توضّحت في خطاب فرض الطوارئ، وطبعا قيادة الجيش وعلى رأسها "البرهان" حاولت تبرئة نفسها بل ونفض يد الجيش والأجهزة الأمنية المتحالفة معه من أي عراقيل واجهت المرحلة الانتقالية، وألقى بالمسؤولية كاملة على عاتق القوى السياسية التي اتهمها بأنها من "رفضت إعادة تجربة سوار الذهب"، في إشارة إلى جنرال الجيش السابق الذي سلم السلطة للمدنيين منتصف الثمانينات بل ان البرهان اضاف في مؤتمره الصحفي اكد ان بعض اطراف مدنية "أرادت الاستفراد بالمشهد واختطفت المبادرات التي أطلقها حمدوك..."
القوى السياسية الحليفة لرئيس الوزراء، ستعمل ولا شك على محاولة لملمة صفوفها ولديها توافقات على مقاومة الإجراءات الأخيرة بكافة السبل السلمية، لكن هناك مخاوف من أن تتصدر أي شخصية سياسية أو حزبية المشهد لأنه سيكون مصيرها الاعتقال والأمل في أن يستمر الشارع في صموده أطول فترة ممكنة، وستكون مواقف الحركات المسلحة حاسمة لمعرفة مدى قدرة الجيش على بناء حاضنة سياسية له خلال الفترة المقبلة، إذ أن "حركة جيش تحرير السودان" (جناح "مني أركو مناوي")، و"حركة العدل والمساواة" اللتين قادتا القوى السياسية المنشقة عن قوى الحرية والتغيير، لم تعلنا عن مواقفهما بوضوح، والحركتان لديهما حضور واسع في دارفور، إلى جانب باقي حركات "سلام جوبا" باستثناء الحركة الشعبية شمال (جناح "مالك عقار") التي أعلنت رفضها لما وصفته بـ"الانقلاب"...
منظمات المجتمع المدني لا تَزال تُحظى بشعبية في الشارع السوداني وانعكست تحديدا في الاستجابة للخروج في مليونية الحادي والعشرين من أكتوبر الماضي وفي رفض انقلاب 25 أكتوبر الحالي، ولديها قدرة على تنظيم التحركات بالتعاون مع تنسيقيات لجان المقاومة التي تمكنت من إخفاء قياداتها البارزين خوفا من اعتقالهم ولعبها دورا مهما في تتريس الشوارع لنجاح العصيان المدني، وفعليا يمكن الجزم أن قدرة الشعب السوداني على تنظيم الاعتصامات التي تقود إلى إسقاط الأنظمة العسكرية في ثلاث مرات سابقة قادرة على تكرار الأمر هذه المرة، لأن المكون العسكري يفتقر للظهير الشعبي الذي يجعله قادرا على تمرير خطواته بشكل سلس، وقد تكون البلاد معرضة لاحقا لموجات من العنف لكنها في النهاية ستمهّد للعودة إلى الحكم المدني والوثيقة الدستورية، كما أن السودانيين لا يعوّلون كثيرا على اتخاذ إجراءات ضاغطة على قوات الجيش، وأن قضايا السودان التي ظلت في أدراج الأمم المتحدة سنوات لم يجر النظر فيها لأنها تتعارض مع مصالح قوى لديها مصلحة في استمرار الحكم العسكري...
بقلم:
علي عبد اللطيف اللافي – كاتب ومحلل سياسي مختص في الشؤون الافريقية
سلسة الانقلابات العسكرية والتقلبات الدراماتيكية في المشهد السياسي السوداني متواصلة، وذلك أمر بَيّن وجليّ، ولكن نجاح أربع فقط من بين 12 انقلابا خلال خمس عقود يدفع الى البحث عن حقيقة ما جَرى ويَجري، فما هي قصة الانقلاب الأخير وما علاقته بالمحاولة الانقلابية التي جرت في 21 سبتمبر الماضي وبالاجتماعات الماراطونية التي تمت قبل 25 أكتوبر الحالي، وأي علاقة لكل ذلك بسياقات الجدل الذي تم ما قبل سقوط البشير وبحراك مَا بعد سقوطه؟
الأسابيع الماضية التي قادت إلى انقلاب 25 أكتوبر الجاري، كانت حافلة بالتوترات بين القيادتين العسكرية والمدنية اللتين كانتا تتنازعان للسيطرة على البلاد مع اقتراب موعد تسليم العسكر السلطة للمدنيين، والواقع أن عقلية التجاذب وذهنية الانقلاب كانتا سائدتين وسط مزاج عام ساد منذ الإطاحة بنظام "عمر البشير" منذ حوالي ثلاث سنوات، وهو مزاج تحول فعليا إلى احتجاجات متفرقة ومحاولة انقلابية فاشلة الشهر الماضي (تحديدا في 21-09-2021) والتي يعتقد البعض انها كانت محاولة تكتيكية لتبرير الانقلاب الحالي، ومن ثم تم بشكل مستمر وشبه يومي تبادل الاتهامات بخيانة مبادئ الثورة حيث أكد المدنيون على ضرورة خروج العسكر من السلطة بحلول 17 نوفمبر وهو الموعد الذي كان سينهي الفترة الانتقالية، وهي المرة الأولى التي كان سيتولى فيها المدنيون الحكم منذ 3 عقود أو يزيد...
السودان واجه منذ سنوات مشاكل تضخم ونقص في المواد الغذائية ولكن الوضع تعفن أكثر خلال الأسابيع الماضية وهنا اتهم "حمدوك" بدور الجيش بإثارة الاحتجاجات مع اقتراب موعد تسليم السلطة، ولكن الجيش كانت ولا تزال لديه مخاوف كبيرة من وقف نشاطه في مجال صناعة الذهب (ذلك أن القوات المسلحة تلعب دورا مهما في صناعة التنقيب عن الذهب وتقوم بتصديره إلى دبي)...
قبل 25 أكتوبر الجاري كان هناك تراكم كمي لدرجات الريبة بين المدنيين والعسكريين، كما أن الطرف الثاني – اي العسكريين كان لهم ريبة في أنهم قد يُوضعون في الرف والحقيقة أن هناك تنافسا طويلا بينهما بل بين العديد من اللاعبين، وهو تنافس وصل ذروته في الأسابيع والأشهر الماضية والذي توج المحاولة الانقلابية في 21 سبتمبر الماضي كتعبير فعلي عن تنازع المصالح بين الجيش ودعاة الديمقراطية وكل ارسل انصاره للتظاهر في الشوارع وكل له وجهة نظر وترتيب مستقبلي لدوره وعلاقته مع الشريك الثاني، وقد بلغ التعقيد ذروته في الطريقة التي حاول فيها كل حزب أو طرف في العملية الانتقالية توسيع أو الحفاظ على قاعدة السلطة التي حصل عليها حيث تم رفض المحاولات المتكررة لدمج قوات الدعم السريع المتهمة بجرائم في دارفور بالجيش من قبل قائدها "محمد حمدان دقلو" (المعروف باسم "حميدتي")، ومعلوم أن رئيس الوزراء "حمدوك" قد أكد في فيفري الماضي إن الانشقاق داخل الجماعات السياسية التي تشارك في عملية التحول الديمقراطي سيؤدي إلى الفوضى والحرب الأهلية.
السودان لم ولن يكون بلدا عاديا في معادلات صراع النفوذ على القارة الافريقية وسواحله استراتيجية في رسم ملامح التواجد والمرور للعمق الافريقي وهو تحول ومنذ بداية العقد الحالي الى ساحة صراع بالوكالة بين أطراف بل بين أذرع اقليمية خادمة لقوى دولية لها حساباتها الدقيقة وخاصة الروس والأمريكيين والصينيين وكل له مراميه وحساباته التكتيكية والإستراتجية ولكن ذلك لا يَنفي توفر وكلاء محليين سودانيين من ذوي ضيقي الأفق الاستراتيجي فيلعبون أدوارا بالوكالة لتلك الاطراف والأذرع سواء كانت اقليمية أو دولية، حتى أن "تيودر ميرفي" (مدير برنامج إفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية)، أكد في تصريحات صحفية له، أن الجيش تحرك خوفا من إضعافه وأن تحركه حُظي بدعم من دول خارجية، بل وأضاف "هناك تقارير موثوقة بأن "مصر" و"الإمارات العربية المتحدة" دعمتا توجه القوات السودانية المسلحة..."
المكونات السياسية والاجتماعية توجد في كل مربع وهي مُتعددة ومتشابكة ضمن مربعاتها وعبر خيوط دقيقة مع مربعات أخرى، وهنا لا يُمكن الجزم أو القول أن هذا الطرف الإقليمي أو ذاك يُمكن أن يدعم ويدفع في أي اتجاه وللمسك بكل الخيوط يتطلب الأمر اختراق كل المكونات ومن ثم تقدير الآلية التي تمكن من التحكم في تلك اللحظة الزمنية بالذات نتاج التقلب في الولاءات والتحالفات كلما تطورت الأوضاع سواء في السودان او في أي من دول الإقليم والسودان لم ولن يستطيع التخلي عن الدعم الأممي والدولي، لأن ذلك الدعم ليس اقتصاديا وماليا فحسب، حتى أن جهود الأمم المتحدة التي تشارك في عملية دعم التحول الديمقراطي تساعد السلطة على مجابهة الانفلاتات المتوقعة في أقاليم الهامش حال اتسع نطاق العصيان المدني ووقع المزيد من العنف والفوضى، وأن النظام الموجود على رأس سدّة الحكم سيكون بحاجة إلى دعم يساعده على تقويض حدّة الانفلات، وهو ما يعني ان حقيقة المواقف الدولية تحتاج الى تفصيلات وتدقيق وتعمق كبير في الجزئيات...
بالتراجعات التي أقدم عليها "البُرهان"(قائد الجيش وقائد الانقلاب الاخير)، يكون قد ألقى بما يمكن وصفه بـ"الطُعم" للقوى السياسية غير المتوافقة مع تحالف الحرية والتغيير، والمناوئة بشكل كامل للتعاون مع المكوّن العسكري، وأتاح الفرصة أمامها للمشاركة في هياكل السلطة الانتقالية دون أن يُوضح ماهية تلك القوى التي ينوي التنسيق معها، ويمكن تحديد تلك الاحزاب التي ينوي الجيش التعاون معها هي ذاتها التي شكلت القاعدة العريضة لـ"اعتصام القصر"، إلى جانب عدد من الأحزاب المتحالفة مع حزب المؤتمر الوطني المنحل، وأطياف واسعة من القبائل والمكونات الصوفية والدينية التي تتماهى مع الأنظمة الموجودة على رأس السلطة مهما كانت توجّهاتها...
لا شك في أن ردّة الفعل القوية على مستوى الشارع ودخول الخرطوم وبعض المدن الأخرى في عصيان شامل، وحالة الذعر التي أصابت المواطنين بعد أن ذكّرتهم خطوات الجيش بانقلابات سابقة انعكست سلبا على الأوضاع طيلة العقود الماضية، والرفض الدولي الواسع والحديث الأمريكي عن تعليق المساعدات، كلها دفعت إلى تهدئة لهجة الجيش التي توضّحت في خطاب فرض الطوارئ، وطبعا قيادة الجيش وعلى رأسها "البرهان" حاولت تبرئة نفسها بل ونفض يد الجيش والأجهزة الأمنية المتحالفة معه من أي عراقيل واجهت المرحلة الانتقالية، وألقى بالمسؤولية كاملة على عاتق القوى السياسية التي اتهمها بأنها من "رفضت إعادة تجربة سوار الذهب"، في إشارة إلى جنرال الجيش السابق الذي سلم السلطة للمدنيين منتصف الثمانينات بل ان البرهان اضاف في مؤتمره الصحفي اكد ان بعض اطراف مدنية "أرادت الاستفراد بالمشهد واختطفت المبادرات التي أطلقها حمدوك..."
القوى السياسية الحليفة لرئيس الوزراء، ستعمل ولا شك على محاولة لملمة صفوفها ولديها توافقات على مقاومة الإجراءات الأخيرة بكافة السبل السلمية، لكن هناك مخاوف من أن تتصدر أي شخصية سياسية أو حزبية المشهد لأنه سيكون مصيرها الاعتقال والأمل في أن يستمر الشارع في صموده أطول فترة ممكنة، وستكون مواقف الحركات المسلحة حاسمة لمعرفة مدى قدرة الجيش على بناء حاضنة سياسية له خلال الفترة المقبلة، إذ أن "حركة جيش تحرير السودان" (جناح "مني أركو مناوي")، و"حركة العدل والمساواة" اللتين قادتا القوى السياسية المنشقة عن قوى الحرية والتغيير، لم تعلنا عن مواقفهما بوضوح، والحركتان لديهما حضور واسع في دارفور، إلى جانب باقي حركات "سلام جوبا" باستثناء الحركة الشعبية شمال (جناح "مالك عقار") التي أعلنت رفضها لما وصفته بـ"الانقلاب"...
منظمات المجتمع المدني لا تَزال تُحظى بشعبية في الشارع السوداني وانعكست تحديدا في الاستجابة للخروج في مليونية الحادي والعشرين من أكتوبر الماضي وفي رفض انقلاب 25 أكتوبر الحالي، ولديها قدرة على تنظيم التحركات بالتعاون مع تنسيقيات لجان المقاومة التي تمكنت من إخفاء قياداتها البارزين خوفا من اعتقالهم ولعبها دورا مهما في تتريس الشوارع لنجاح العصيان المدني، وفعليا يمكن الجزم أن قدرة الشعب السوداني على تنظيم الاعتصامات التي تقود إلى إسقاط الأنظمة العسكرية في ثلاث مرات سابقة قادرة على تكرار الأمر هذه المرة، لأن المكون العسكري يفتقر للظهير الشعبي الذي يجعله قادرا على تمرير خطواته بشكل سلس، وقد تكون البلاد معرضة لاحقا لموجات من العنف لكنها في النهاية ستمهّد للعودة إلى الحكم المدني والوثيقة الدستورية، كما أن السودانيين لا يعوّلون كثيرا على اتخاذ إجراءات ضاغطة على قوات الجيش، وأن قضايا السودان التي ظلت في أدراج الأمم المتحدة سنوات لم يجر النظر فيها لأنها تتعارض مع مصالح قوى لديها مصلحة في استمرار الحكم العسكري...